للمرة الأولى بعد رحيله يحل حصان شاعرنا العربي الكبير محمود درويش وحيدا دون صاحبه، ويختار ان يأخذ له قسطا من الراحة بمناسبة أربعينية فقيدنا الغالي في مدينة سوسة فكانت أمسية رمضانية ليلة 22 سبتمبر 2008 خصصت بدار الاتحاد الجهوي للشغل للاحتفاء بمحمود درويش وتكريمه ومبايعته بيعة الإبداع والوفاء والإخلاص وذلك بحضور هامات فكرية في المشهد الثقافي والأدبي التونسي ممثلة في الشاعرين المبدعين محمد الصغير أولاد احمد والمنصف الوهايبي. وهذا الأخير كان في حوار مطول أجريته معه في أكتوبر 2000 تحدث فيه عن شاعرنا درويش : «بالنسبة لمحمود درويش وهذا قلته له في المغرب منذ شهرين تقريبا انه يشدني أكثر في قصائده الملحمية وبالتحديد دواوينه الأخيرة مثل لماذا تركت الحصان وحيدا والجدار ية - واحد عشر كوكب ؟ وهذا بحق هو محمود درويش الذي أحب والذي هو من هذا المنظور تجربة شعرية متطورة تمثل في اعتقادي بسعدي يوسف ونزار قباني وأحمد ونيس. كان هذا الكلام في حياة محمود درويش واليوم يوجدالوهايبي في دار الاتحاد الجهوي للشغل بسوسة ليتحدث عنه في رحيله ولسانه ربما يقول لماذا تركت الشعر وحيدا يا درويش.؟ اما محمد الصغير أولاد احمد فقد جاء إلى سوسة ملتحفا ذكريات مضت تؤرخ كلها لتواصل إبداعي جمعه ذات وجود مع كائن مبدع جاء إلى الحياة بنفخة من لغة وعاد إلى التراب بقصيدة كتبها ولم يكتبها. كتبها لأنه لم يكترث يوما بالموت المحدق به مع كل فاصل إبداعي أهداه لنا،وكأن هم شاعرنا الكبير انحصر على الدوام في تشكيل قصيدته القادمة وإحياء قصيدة مضت. ولم يكتبها لأنه لم يشفق يوما على قلبه الضعيف والعليل واستغنى عنه حين اكتشف انه يعيش بقلوب الجماهير النابضة بومضة درويش وقافية درويش وتجديد درويش. نعم لقد توقف قلب درويش لان سلطة الكلمة عنده كانت أقوى من سلطة الوجود والحياة فرحل إلى مثواه الأخير تاركا شعرا غزيرا سيشغلنا أكثر من ذي قبل وسنستمد منه ذلك الدستور الوفاقي الذي وحد يوم جنازته كل فلسطين. فكانت تلك آخر رسالة انبعثت من نعش درويش ووجهها شاعرنا المسجى في تابوت اللغة إلى السياسيين الفلسطينيين ومفادها ا أحبوا فلسطين إذا كنتم فعلا تحبون درويش. شاعر وقصائد وبالعودة إلى أربعينية الشاعر العربي الكبير محمود درويش التي اشرف عليها الاتحاد الجهوي بسوسة وحضرها الاخ عبيد البريكي الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل واعضاء المكتب التنفيذي الجهوي وعدد كبير من الإطارات النقابية الجهوية والأخ محمد الهادي الأخزوري. فقد افتتحت بكلمة للأخ نور الدين الغماري الكاتب العام المساعد للاتحاد الجهوي المسؤول عن الاعلام والنشر كانت خير تمهيد للولوج إلى المنطقة الإبداعية في جغرافيا الشعر الدرويشي.وقد استطاع بحكم تخصصه كأستاذ لغة عربية ومهتم بالشأن الثقافي والإبداعي عموما ان يبرز قيمة محمود درويش كشاعر مقاوم حقق بشعره ما عجزت عن تحقيقه الفصائل الفلسطينية بالسلاح. وقال ان اكبر شرف ناله شاعرنا بعد رحيله هو ان اسم محمود درويش أصبح يرمز لفلسطين مثلما أضحت فلسطين ترمز لحمود درويش. وهي ثنائية وصفها الاخ نورالدين الغماري بكونها معبرة وتوحي بقدرة الإبداع الحقيقي على هزم الموت والخلود. وأضاف ان درويش وفق هذا المعنى الانطولوجي هو حي بيننا ووجودنا في هذه الأمسية الرمضانية اصدق دليل على شوقنا لقصائد درويش ولروحه المبدعة التي ستظل ترفرف في كامل إرجاء وطننا العربي وتنثر حبات شعره المتفرد لنتلقاها بدورنا بتعطش شديد. وأضاف بلغة شاعرية ان وجودنا اليوم في هذه الأمسية الرمضانية الخالدة هو ليس للبكاء على زمن شعري جميل ولى وانقضى ، لان محمود درويش لم يمت وسيظل ماثلا بقوة في ذاكرتنا الإبداعية بمثابته رمزا ومجددا لا يشق له غبار. ولأنه كذلك فقد مارس درويش هوايته المفضلة دوما في كسر المعاناة مهما كان نوعها بما في ذلك معاناة الموت. فمن غير درويش من الشعراء مات فجأة فقرأت عليه قصائده الفاتحة ثم عجلت بتأبينه وعزف لحن الخلود له. بعد ذلك استعرض الأخ نورالدين الغماري بأسلوب برقي أهم المراحل في حياة محمود درويش انطلاقا من تاريخ ولادته بقرية البروة في الجليل وصولا إلى رحيله عن الحياة اثر تدخل جراحي في الولاياتالمتحدةالامريكية . وتوقف عند أهم أعماله الشعرية واصفا إياها بالثروة الإبداعية التي ستظل على الدوام تقدم لنا درويش بمثابته شاعر القرن الذي اخلص لمبادئه فاخلص له جمهور الشعر وبكاه الوطن. العظماء لا يموتون الأخ عبيد البريكي ألامين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل المسؤول عن التكوين النقابي والتثقيف العمالي والذي اشرفعلى احياء أربعينية الشاعر الكبير محمود درويش في عدد من الجهات وفق برمجة ثرية ومدروسة لاقت استحسان النقابيين والشغالين. كانت له بدوره كلمة معبرة امتزج فيها تأبين الفقيد بإحيائه من جديد ولسان حاله يقول ان العظماء لا يموتون. وبالفعل فكل من تابع فعاليات الأربعينية والبرمجة التي تخللتها لابد انه شعر بمحمود درويش حيا يرزق بشعره داخل القاعة. وهذه نقطة تحسب لقسم التكوين النقابي الذي أولى اربعينية فقيد الساحة الأدبية العربية ما تستحقه من اهتمام. كما أنها تحسب للاتحاد الجهوي بسوسة الذي أكد مرة أخرى ان الهم الثقافي كان على الدوام شريكا لاينفصل عن الهم النقابي. وهذه مسالة على غاية من الاهمية طرحها الأخ عبيد البريكي في كلمته المؤثرة والبليغة حيث قال آن الأوان لنعتقد جازمين بان الاتحاد العام التونسي للشغل هو ليس فقط منظمة عمالية مهنية نقابية لان هذا التعريف المبسط هو من البديهيات التي لا يختلف حولها اثنان، ولكن المنظمة وهذا ما يجب علينا فهمه وإدراكه هي تتسع لأكثر من ذلك باعتبارها فضاء رحبا يكرس إلى جانب المسار التقدمي أسسا ثقافية بديلة تتجاوز السائد وتسهم من موقعها في إرساء أسس جديدة تكون قاعدة للارتقاء بوعي النقابيين والعمال والكشف عن ثقافات أخرى تساهم في دعم المجتمع وتحرير الإنسانية. وطالب على مستوى المركزية النقابية والاتحادات الجهوية والقواعد النقابية بمزيد تكريس هذا التوجه وقال ان هذه الخطوة ضرورية ويجب علينا ان نخطوها ونمنحها فرصة التراكم لان فيها خلاص كل المقموعين في العالم. وأضاف انه ضمن هذا الإطار تتنزل أمسيتنا الشعرية الرمضانية في رحاب دار الاتحاد الجهوي بسوسة لإحياء أربعينية المناضل الكبير محمود درويش واعتبر ذلك وفاء نادرا لشاعر أحببناه جميعا وللمبادئ التي انبنت عليها الحركة النقابية في تونس. وأضاف متوسعا في هذه الفكرة ان محمود كان على الدوام يرفض حصر اهتماماته بالقضية الفلسطينية فحسب رغم انه رمزها الأول دون منازع وأفضل من اعتنقها وعبر عنها شعريا وقال ان مواقفه في هذا المنحى تتناغم كليا مع موقف الحركة النقابية التونسية واستشهد برفض درويش لاتفاقية أوسلو والتطبيع مع كيان العدو وقال ان اتحادنا العظيم اختار أيضا هذا المنحى . وفي خاتمة تدخله قال الأخ عبيد البريكي لكل هذا نحن على قناعة ثابتة بان رجلا مثل درويش يستحق منا لحظات وليس فقط لحظة وفاء للكشف عن جانب من ذاته وهو الذي ملأ الدنيا وشغل الناس انطلاقا من حقيقة يجب ان لا نختلف عندها وهي ان محمود درويش وان كان فلسطينيا وعبر عن فلسطين إلا ان ذلك لم يمنعه من التعبير عن كل العالم ولعل هذا ما جعل درويش يصرح مرارا بأنه مواطن عالمي يفتخر بانتمائه إلى أسرة التقدم والتحرر والاشتراكية وهذا ليس غريبا عن محمود القومي والوطني والاممي في توجهاته الذي قد يكون فعلا غادرنا لكن ليس إلى الموت ولكن للخلود في قلوبنا. . محمد الصغير أولاد احمد : وحيد كالحجر رغم إرهاق المعاناة والتعب والسفر.. وُجدَ الشاعر الكبير محمد الصغير أولاد احمد في رحاب دار الاتحاد الجهوي بسوسة ليمتع الحضور بنفحات شعرية من روحه المبدعة منوا النفس كثيرا بسماعها منه مباشرة. وبالفعل فقد كان شاعرنا في الموعد ليلقي مقاطع شعرية طغى عليها طابع الومضة وهو أسلوب شعري معقد لا يتقنه من العرب إلا شعراء يعدون على الأصابع . ومحمد الصغير أولاد احمد واحد من هؤلاء جاء محملا بفجيعة الموت ليرثي فقيدنا محمود وليقول فيه ما انتظرنا سماعه من شاعر مختلف في كل شئ حتى في التعبير عن الموت : قالت سأنتحر الدقيقة هذه محمود مات.. فما أنا من بعده قلنا أطال الله في عمري دقيقة فاقرئي هذا القصيد بخطه ويتذكر شاعرنا الكبير محمد الصغير أولاد احمد وهو يقرأ مقاطعه في درويش، قرضاوي الجزيرة ، هذا الشيخ الذي صادر منه يوما محمديته واستكثرها عليه بعد ان أصر على مناداته بالصغير فقط دون محمد . فكان تعريجه على هذه النقطة قصيدة جديدة من وحي اللحظة عنوانها بداهة ما قبل وما وسط وما بعد النص. شاعرنا محمد الصغير اضطر إلى الاقتصار في مقاطعه الشعرية نظرا لضيق الوقت وانهى مداخلته بمقطع متوهج تفاعل معه الحضور كثيرا : حجر..لتحرير الحجر حجر ينادي ياحجر هذه بلادي.. وانا وحيد كالحجر المنصف الوهايبي: أمّة هذه أم امة ؟ الشعر دائما ممكن مع المبدع التونسي الكبير المنصف الوهايبي. وفي أربعينية محمود درويش استجاب الوهايبي لرغبة عدد من الأصدقاء وقرأ للحضور قصيده الشهير «الأمة» واضطر بين المقطع والمقطع للتوقف حتى يفسح المجال للحضور للتعبير عن إعجابهم بما تضمنه القصيد من صور شعرية وبلاغة سلسة ارتقت بالفعل الشعري من التصور إلى التأسيس وطرحت إضافة إلى ذلك سؤالا جوهريل حول واقع الامة وما الذي صابه : أهذه امة أم انها امة ؟ لحن الخلود من الشمك لمحمود رضا الشمك..مبدع اختار منذ معزوفته الأولى ان يقطع مع الرداءة ويؤسس لخطاب موسيقي فيه سحر وفن ومتعة والتزام . لذلك يعتبر مجيئه إلى دار الاتحاد الجهوي بسوسة حدثا في حد ذاته لايقل قيمة عن وجود الوهايبي ومحمد الصغير أولاد احمد. ومثلما هي عادته دوما فقد كان رضا الشمك قليل الكلام ولكن كثير العزف. واحترم آلة العزف لديه وهي العود ومكنها من فرصة التلاقي مع درويش ورثائه بمعزوفات متفردة كانت خير دواء لما عشش في أذننا ولو عرضيا من موسيقى هابطة فرضت علينا فرضا. نعم رضا الشمك شكل في مناسبة أربعينية درويش أمسية داخل الأمسية فلمسنا انفعاله وتخاطبه مع «اعوده» وحديثه مع درويش وكأنه يخط فيه معزوفة رثاء تؤسس لخلود درويش وتبلغه رسالة فحواها فراقك مر يا درويش ..وحياة المبدعين بعدك يا محمود نشاز. صوت واعد كل الذين حضروا أربعينية شاعرنا الكبير محمود درويش انبهروا بالصوت الدافئ والقوي للفنانة لبنى نعمان التي رافقها العازف والملحن والمبدع رضا الشمك على آلة العود فقدمت لنا عدة روائع أشعرتنا فعلا اننا موجودون في حضرة شاعر كبير هو محمود درويش.