من الإجحاف أنْ نحمّل القواعد «السلفيّة»، وحدها، وزر أحداث العنف منذ الأشهر الأولى التي أعقبت الرابع عشر من جانفي 2011. لا، ولم نكن بحاجة إلى أن نشاهد على الهواء «إمام» جامع النور ب«دوّار هيشر» وهو يرفع كفنه في وجه وزير الداخليّة وفي وجوه الملايين ممّن كان يتابع برنامج الفضائيّة التونسيّة حتّى نوقن أنّ كرة الثلج قد دحرجناها، بدءا وتكرارا، بما يسمح لها بأن تكبر وتكبر حتّى تكاد تستحيل إلى صخرة صلدة. المسؤوليّة السياسيّة والقانونيّة على الأعمال العنفيّة المرتكبة لا تتحمّلها القواعد السلفيّة بدرجة أولى، فهذه القواعد التي قد تمارس العنف تحت راية الجهاد أو «دفع الصائل» أغلبها محدود الوعي والتكوين التعليمي والثقافيّ. وعادة ما تكون هذه القواعد من أوساط يغلب عليها التفقير والتهميش والتجهيل، وتضمّ الشباب الحائر الباحث عن نفسه أو عن موقع أو دور. أمّا المسؤولية في المقام الأوّل فهي، في تقديري، ملقاة على القيادات ذات العقائد الإقصائيّة التكفيريّة والارتباطات الإقليميّة والدوليّة، وعلى سائر القيادات الفكريّة الإسلاميّة التي لم تشرع بعد في القيام بترشيد جدّي ل«العمل الإسلاميّ» ولا بمراجعات «لاهوتيّة» ثابتة تحمل هذه الجماعات على قواعد عمل قانونيّة في كنف المواطنة والديمقراطيّة وحقّ الاختلاف.
صرنا إزاء سيناريو يتعاود. يقع الزجّ بهذه القواعد التي وقعت دمغجتها في مغامرات غير محسوبة النتائج، ثمّ يتمّ الخلوص إلى النهاية ذاتها. التراجع عن المغامرة وضمّ الأرواح التي أزهقت إلى قافلة «الشهداء»، والدعوة إلى ضبط النفس والصبر !
جيّشوا للهجوم على السفارة الأمريكيّة من أعلى المنابر، وبعد أن مات خمسة من الشباب المتحمّس ل»نصرة» نبيّه الكريم، تراجعوا ودعوا إلى التهدئة وحقن الدماء. وبعد أحداث «دوار هيشر» التي انتحلت فيها هذه الجماعات مهمّة الدولة في احتكار العنف وإنفاذ القوانين على الناس، ثمّ مات فيها شابّ (أو اثنان بحسب بعض الأخبار) عاد القادة إياهم ليدعوا إلى الصبر والتهدئة وتفويت الفرصة على الصائدين في الماء العكر. حقيقة بتنا لا نفهم كيف يدعو أمثال «الخطيب الإدريسي» أو «أبو عياض» أو «البشير بن حسن» إلى الموعظة الحسنة وعدم التقاتل والبغضاء وإلى عدم اعتماد العنف، أو أن يقول أحدهم إنّ ظاهرة التكفير ظاهرة خطيرة (وماذا تصنعون أنتم يا رعاكم اللّه كلّ يوم بالغدوّ والآصال؟).
من جانب الحكومة، وفيما يلوذ «التكتّل» و«المؤتمر» بشعار «داخل في الربح خارج من الخسارة» فيكتفيان ببيانات التنديد والشجب وكأنّهما من المعارضة، تعمد حركة «النهضة» إلى سياسة الترهيب حينا وإلى سياسة الصمت والنعامة أحيانا، وإلى سياسة الترغيب والمصانعة في أحيان أكثر.
انظروا إلى التبريرات التي يسوقها بعض رموزها، وبعض المحلّلين المقرّبين منها، وبعض المنابر الناطقة باسمها أو صارت تنطق باسمها (!!)، وهي تبريرات تحاول أن تبرئ هذا «الشباب الملتزم» و»المتديّن» بترويج سيناريوهات مضخّمة عن معركة «مقدّسة» بينهم وبين تجّار الخمور ومعاقريها على عتبات البيوت وفي الأزقّة يوم الأضحى، أو إرخاء العنان لخيال مسكون بنظرية المؤامرة يقول إنّ الأحداث في محصّلتها من تدبير حزب سياسيّ بعينه (طبعا هو!!)، أو أنّ أحداث «دوار هيشر» مدبّرة من الخارج وتهدف إلى جرّ السلفيّين إلى العنف، وأنّ الإطار الأمني قد شجّ رأسه أحدُ المنحرفين من تجّار الخمور في حين سمع القاصي والداني أنّ التحرّكات العنيفة التي أدّت إلى مقتل مؤذّن «جامع النور» كانت على خلفيّة القبض على المتّهم السلفي بالاعتداء على الرائد وهو هارب في مدينة بوسالم.
مازالت القوانين الوضعيّة لا تجرّم الافتراء والمكابرة ولا أعمال الخيال المجنّح، أمّا التجارب فتعلّمنا أنّ السحر كثيرا ما انقلب على الساحر. انظروا ما آل إليه «المجاهدون العرب أو الأفغان» وهم صنيعة الولاياتالمتحدة الأمريكيّة في حربها على المدّ السوفياتي سابقا. لقد توّجت العلاقة يتفجيرات 11 سبتمبر 2001، وبالاشتباك المباشر في أفغانستان والعراق.. وانظروا في محيطنا العربيّ كيف آلت علاقة الودّ بين حركة «حماس» وأحد أذرعتها العسكريّة (جند الإسلام) إلى نهاية مأسويّة حوصرت فيها الجماعة في مسجد «ابن تيميّة» شمال غزّة، وتمّت تصفية أفرادها المعتصمين ببيت اللّه.
كنت هممت بعنونة هذه الورقة ب«زوبعة السلفيّة في فنجان النهضة»، ولكنّي أحجمت لإيماني أنّ الزوبعة السلفيّة بخلفيّاتها وتداعياتها واقعة في فنجاننا المشترك، فنجان الخَلَف لا فنجان «النهضة» وحدها، ذلك الخَلَف الذي عناه «لبيد بن ربيعة» وتمثّلّت به «أمّ المؤمنين عائشة» في أوقات وحدتها: «ذهب الذين يُعَاشُ في أكنافهم وبقيتُ في خَلَف كجِلد الأجرب»