«يا منعاش» شريط يقف في مسافة بين الروائي والوثائقي ، فيلم موجع ومؤلم وحزين إنه رحلة في قاع المجتمع التونسي. محاصرة نوادي السينما وانحسار مساحات حرية التعبير قبل 14 جانفي لم تمنع مجموعة من السينمائيين الشباب من حفر مسالك ودروب في أرض وعرة. وفي الدورة الرابعة والعشرين لأيام قرطاج السينمائية نكتشف مجموعة من الأعمال التي رصدت لحظات الانفجار الذي هز تونس والذي أدى إلى المسار الانتقالي الذي لا أحد يعرف إلى أين سيقودنا.
هند بوجمعة واحدة من هؤلاء الشباب، في ليلة 14 جانفي وبعد فرار الرئيس الأسبق بدأت في تنفيذ شريطها من خلال تتبع خطى امرأة فقيرة في الأربعين مطلقة أم لأربعة أبناء تحلم بالعثور على مسكن يأويها مثل عشرات العائلات الفقيرة التي زحفت على المساكن المهجورة وعلى مساكن السنيت وسيرولس.
هكذا تبدأ الحكاية ونتابع رحلة عائدة مع ابنها فوزي في رحلتهما للبحث عن مأوى بعد سنوات من التهميش والعذاب، في هذه الرحلة بين المنازل المهجورة ومقرات التجمع المنحل والأقبية نكتشف حكاية عائدة مع الحياة منذ ان كانت طفلة عندما كان صديق والدها يتحرش بها دون ان يحرك الوالد المشغول في نبيذه ساكنا ولا والدتها التي كانت مضطرة لقبول هدايا صديق العائلة كحل للفقر والحرمان... تسلم عائدة نفسها لحبيبها فتنجب منه «فوزي» في «الحرام» كما تقول لتتزوج بعد ذلك من حبيبها وتنجب منه ثلاثة أبناء وبعد الطلاق تسلم الأبناء الثلاثة الى قرية قمرت وتواجه مصيرها وحدها مع ابنها فوزي.
تعثر عائدة على عمل في مقهى وتتسوغ غرفة مع الجيران وتحاول ان ترتاح لحياتها الجديدة لكنها تدخل السجن بعد ان اتهمتها السيدة التي تعمل في بيتها بالسرقة كما يصبح ابنها لصا محترفا.
خطان متوازيان
عمدت هند بوجمعة في كتابتها لهذا الشريط الى اعتماد خطين متوازيين في السرد الخط الأول لعائدة وحكايتها الحزينة والخط الثاني رصدت من خلاله التحولات السياسية في تونس خلال عام مرورا بالمحطة الكبرى الانتخابات التي قادت الترويكا للحكم.
بعد عام من الثورة تكتشف عائدة أنه لا شيء تغير في تونس فهي لم تعثر على مسكن ولم تغادر الفقر ولا التهميش كما لم ينته الظلم إذ مازال يزج بالناس ظلما في السجون كما تقول في حديثها مع السجينات وهذا الموقف يعكس تصور الفئات الفقيرة والمهمشة التي تعيش في القاع من الثورة وما تحقق في تونس.
هذا الشريط يزعج كل الذين باعوا الأوهام للفقراء في حملاتهم الانتخابية عندما وعدوهم بتحقيق الجنة على الأرض وبنهاية كابوس الفقر والتهميش، فعائدة ليست أكثر من نموذج لآلاف التونسيين الذي لا يملكون مسكنا ولا عملا والذين لم يحالفهم الحظ في «حياة نظيفة» فغرقوا في الحضيض دون ان يختاروا ذلك إنه القدر الإنساني!
شاعرية
هذا الشريط الذي اشترك في إنتاجه الحبيب عطية ودرة بوشوشة حاز على جوائز عالمية وسيعرض قريبا في القاعات، وهو شريط موجع يقدم لنا صورة لا نريد أن نصدقها عن تونسيين يحلمون فقط ببيت صغير ونظيف وعمل حتى وإن كان بسيطا المهم يقيهم ذل الحاجة تونسيون يعيشون في الاحياء الشعبية وكانوا حطبا للحراك الشعبي الذي عاشته تونس قبل الثورة وبعدها لكنهم لم يجنوا شيئا سواء مزيد من الحرمان ومزيد من الفقر والتهميش.
الشريط لم يخلو من مسحة شعرية واضحة وخاصة في مشهد عائدة مع أبنائها الأربعة على شاطئ البحر ومشهد القبلات الظامئة بين الأم وأبنائها. ولعل السؤال الذي يطرحه الشريط يجد صدى كبيرا لدى شرائح واسعة من المجتمع التونسي مع اقتراب الذكرى الثانية للثورة وهو ماذا تغير في تونس مادام الفقراء يزدادون فقرا والأثرياء يزدادون ثراء وقد ارتفع عدد أصحاب المليارات بعد الثورة؟