بدأ ساستنا هذه الأيّام تراشقا جديدا بالتصريحات يدور فحواها حول مشروع قانون أساسي سمّاه مقترحوه، كتل حركة النهضة والوفاء والمؤتمر والكرامة والحرية والمستقلين الاحرار، بقانون «تحصين الثورة». ينص هذا القانون بالأساس على إبعاد من ثبُتَ تورّطهم سياسيّا مع النظام السابق لأجل قدره 10 سنوات. فهل فعلا يحصّن هذا الإجراء الثورة؟ ما الذي يهدّد ما أنجزه التونسيّون من تحرر من قيد الاستبداد؟ وكيف يمكن تحصين هذه المنجزات؟ وهل يحتاج تحصينها إلى نص قانوني مغمّس بالصراع السياسي؟
مطالب الثورة
أسئلة احتاج الرد عليها بحثا مطولا في الارقام والتصريحات والعودة الى نقطة البداية حيث بدأت الاحتجاجات الاجتماعيّة والتصعيد ضدّ النظام السابق بشعار، «التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق»، اختزل فيه المحتجّون أزمة الفساد المالي والاقتصادي في الدولة وانعكاس ذلك بشكل مباشر على الوضع الاجتماعي ليفرز تضخّما سنويا متواصلا للمعطّلين عن العمل. بالإضافة الى تفشّي المحسوبيّة والرشوة وتزايد فضائح المقرّبين من الرئيس السابق وتغوّلهم في المجال التجاري والاستثمارات بشكل لافت للنظر.
انضافت الى هذا الشعار مطالب أخرى نادى بها المحتجّون وهي اطلاق الحريات وتحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعيّة وارساء الديمقراطيّة وحرية التعبير والقضاء المستقل وغيرها من المطالب «البرجوازيّة» التي نادى بها التونسيّون في احتجاجات شعبيّة أوقعت 338 قتيلا، أغلبهم شباب ما بين 18 و39 سنة، وأكثر من ألفي جريح بحسب تقرير لجنة تقصي الحقائق.
كان كل الامل قائما في مرحلة ما بعد بن علي على تحقيق تلك المطالب بدليل اندفاع الكل نحو المشاركة في الحياة السياسية والجمعيّاتيّة وما رافقه من انفجار في الولادات الحزبيّة ورويدا رويدا عاد انكماش التونسي بسبب عدم ثقته في المستقبل.
اهتزاز الثقة
بعد ثمانية أشهر فقط مما يُسمّى ب»14 جانفي» أثبت استطلاع رأي أو ما عُرِف ببارومتر الثقة الذي أنجزه منتدى العلوم الاجتماعية التطبيقية، على مرحلتين مرحلة أولى في شهر أفريل 2011 ومرحلة ثانية في شهر أوت 2011 أي قبيل الانتخابات، زيادة في حجم التشاؤم من المستقبل بالنسبة إلى المواطن. إذ ارتفعت نسبة انعدام الثقة الى مستوى 36% بعد ان كانت لا تتعدى 26 بالمائة خلال استطلاع المرحلة الاولى وتراجعت الثقة في قدرات سوق الشغل على النمو من 42,1٪ إلى 23,3٪ وتضاعفت تقريبا نسبة عدم الثقة في الحصول على عمل، فانتقلت بدورها من24,2٪ إلى 40,1%.
وتراجعت معها شعبيّة السلطة، الباجي قايد السبسي آنذاك، من 62% في حين أنها لم تبلغ سوى حوالي 26 بالمائة كما تراجعت الثقة في الأحزاب السياسية من نسبة 47,6 ٪ إلى نسبة 29%.
ورغم كل هذه التخوفات والتوجّس المترجمة في الاحصاءات المنجزة خلال تلك الفترة فقد شهدت أول انتخابات تنجز في المرحلة الانتقالية الاولى اقبالا فاق كل التوقّعات.
تشاؤم ما بعد الانتخابات
حالة التخوف والتشاؤم عادت إلى الظهور بعد 100 يوم من تكليف حمادي الجبالي وحكومته وذلك في عدد من الاستبيانات نذكر منها نتائج استبيان «سيغما كونساي» التي جاء فيها أن 86 بالمائة من التونسيين يرون أن الحكومة فشلت في مكافحة البطالة و75 بالمائة منهم يقرون بفشلها في مقاومة الفساد والرشوة و90 بالمائة اعتبروها فاشلة في الحد من غلاء الاسعار. هذه النتائج دفعت بأستاذ علم الاجتماع سالم الابيض في تصريح ل«العربية نات» بالقول «العينة التي تمّ اعتمادها غير ممثلة للمجتمع التونسي وهي مسيسة وهدفها التأثير على الرأي العام».
وفي شهر سبتمبر الماضي أظهر استطلاع رأي جديد أجرته مؤسسة 3سي للدراسات تراجعا في شعبيّة احزاب الترويكا الحاكمة من ذلك نذكر انخفاضا في عدد ناخبي حركة النهضة ب31 بالمائة والمؤتمر ب39 بالمائة والتكتل بنسبة 30 بالمائة بالاضافة الى ملاحقة حزب نداء تونس لحركة النهضة من حيث الترتيب إذ اثبتت تلك الارقام أنه في حال اجراء الانتخابات البرلمانية العام القادم ستحظى النهضة بالمرتبة الاولى بنسبة 30.4 بالمائة يليها نداء تونس ب20.8 بالمائة.
تناقض بين الشارع والساسة
يُفهم من كلّ هذا أنّ المشهد التونسي أصبح خلال هذه المرحلة الانتقالية الثانية من نوعها يعيش تناقضا بين الشارع والساسة مع كل ما يحمله من اهتزاز في الثقة من جهة المواطن. الشارع يبحث اليوم عن تحقيق للمطالب ويبحث خروجا من حالة الانتظار والترقّب ويبحث عودة ثقة اهتزّت في نخبته السياسيّة وهو غير مهتمّ بصراع الاحزاب حسب المراقبين.
وفي الطرف المقابل تعيش الساحة الحزبيّة تنافسا شديدا كاد أن يصل إلى حدّ العنف السياسي وهو ما حصل فعلا في ولاية تطاوين عشيّة 18 أكتوبر الماضي إثر مقتل منسّق حزب نداء تونس. كما حدث في مرّات عديدة تماس بين الشارع والساسة حين سُمِح لمجموعات تحسب على التيّارات المتشدّدة بالمسّ بحريّات الناس والاعتداء عليهم.
الامر الذي عمّق انكماش التونسي وتباعده عن الساسة وهو الذي عُرِف بحبّه الشديد للأمان. وبالتالي قد يصعب على المواطن التونسي تصديق الفاعلين السياسيين بأنّ مشروع القانون هذا هدفه تحصين الثورة بما تعنيه الكلمة من تحقيق لمطالبه بقدر ما سيرى فيه مصلحة حزبّية لمقترحيه. فهل حُصّنت الثورة فعلا بهذا الشكل؟
استفتاء
«الاجابة باختصار هي واصلوا الثورة واستجيبوا لمطالب الشعب وافتحوا ملفات الفساد المالي والسياسي حتّى تتحقّق أهداف الثورة وفي ذلك الوقت ستحصّن الثورة نفسها بنفسها» هكذا علّق الاستاذ قيس سعيد عن سؤالنا.
ويتساءل سعيّد حول تفاصيل غامضة في مشروع القانون المقترح منها استثناء مجلس المستشارين وأعضاء المجلس البلدي من عمليّة الابعاد موضحا أنّ الشخصيات الامنية لا تحتاج لمقترح في التأسيسي كي لا تترشّح للانتخابات تماما كما جاء في الفصل الثاني من المقترح بل إنّ القانون الاساسي لقوات أعوان الامن الداخلي ليس لهم الحق في الانتخاب اصلا.
وقال أيضا إنّ سنّ قانون لتحصين الثورة حصل في الدول الاشتراكيّة مثل بلغاريا والمجر وتمّ من خلال قانون منع حق الانتخابات وهو الامر الذي لا ينطبق على تونس لأننا لسنا دولة اشتراكية.
واقترح قيس سعيد اعتماد طريقة الاقتراع على الافراد في دورتين اثنتين وفي دوائر انتخابيّة ضيقة لا تتجاوز حدود معتمديّة كأفضل حل للإقصاء لأنّ المواطن يعرف حقيقة المترشح ويقصي من يريد اقصاءه لأن الاقتراع على القائمات الذي جاء بالمشهد السياسي الحالي يفتح الباب لتسلل من لا يعرفه الناخب في حين ان الاقتراع على الافراد هو الافضل للتعبير عن الإرادة الشعبيّة بعيدا عن التحالفات التي قد تعقد دون انتباه منه.
وفي حال عدم اعتماد هذه الطريقة يقترح سعيد عرض مشروع القانون على الاستفتاء بعد تعديله تجنبا للنقائص الواردة فيه وبعد فتح جميع ملفات الفساد دون استثناء وبعد حملة تفسيرية تسبق العملية الاستفتائية حتى يكون الشعب قادرا على الاختيار.