أشارت الشروق مؤخرا إلى عودة أستاذ الفلسفة التونسي أبو يعرب المرزوقي إلى الكتابة بعد فترة غياب قال أنّه قصر جلّها في العمل الحكومي كمستشار للتربية والثقافة لدى رئيس الحكومة، في ما يلي الجزء الثاني من آخر نص كتبه المرزوقي حول أعداء الثورة وطرق إفساد مخططاتهم. (...) وكان يمكن لمن انتخبهم الشعب أن يفهموا طبيعة هذه المناورات وكيفية التغلب عليها لو لم يسارعوا لتحقيق ائتلاف غير سليم لم يحدد أصحابه طبيعة المعركة. تصوروها سياسية فحسب. ونسوا أنها حضارية كذلك أو بصورة أدق فإنهم قد تصوروا أن أعداء الثورة يمكن أن يكتفوا بالوجه السياسي من المعركة وأن يؤجلوا مثلهم المعركة الحضارية. نسوا أن من اتفق معهم في 18 أكتوبر لم يحالفهم إلا لأنه يئس من نجاح ابن علي في ربح المعركة الحضارية بل هم خافوا من أن شقا من مافيته بدأ يميل إلى التقرب ممن يعتبرونهم أعداءهم الحقيقيين أعني الإسلاميين فأرادوا استعمال الإسلاميين مرة ثانية في الإطاحة بابن علي كما استعملهم ابن علي مرة أولى في الإطاحة ببورقيبة ثم القضاء عليهم لاحقا (لعلم المتسعملين في الحالتين بشعبية الإسلاميين وقدرتهم على الصبر في النضال). المعركة الحالية هي: كيف يمكن التخلص من ممثلي الإسلام السياسي الذي اقتنع الغرب والشرق أنه لم يعد بالوسع حكم البلاد العربية والإسلامية من دونه خاصة بعد أن فهمت قياداته أنها لا يمكن أن تبني دولا حديثة من دون قيم الحداثة أعني الديموقراطية ودولة المواطنة والقانون.
ذلك أن ما تعاني منه الثورة حاليا لم يتأت من قوة المعارضة ولا من الأدوات التي وصفنا بل من كون طبيعة المعركة التي نصف هنا لم تكن واضحة لدى من أرادوا أن يحكموا دون الاستعداد للتصدي لخطط أعداء الثورة ولا لتوضيح طبيعة المعركة لشباب الثورة لئلا يبقى شبه متفرج في حين أن الثورة لا يمكن أن يحميها غيره: والخطة الجهنمية تمثلت في استعمال قانون الجودو أي بضرب الخصم بتوجيه قوته الذاتية ضده. وكان ذلك يقتضي توريط ممثلي الشعب الحقيقيين في حكم انتقالي يسهل إفشاله بطرق بسيطة جدا أهمها المزايدة في الحريات والمطالبة بالحقوق بصورة تشوه الصورة وتوقف آلة الاقتصاد فيعودوا إلى الحكم عودة المنقذين وبآليات تبدو ديموقراطية لا غبار عليها. وتلهف البعض على الحكم كان كفيلا بالباقي. ورغم أن هذه الخطة كانت معلومة للجميع ومعلوم كذلك أنها جربت ونجحت في كل المراحل الانتقالية فضلا عن كون أصحابها يستندون فيها إلى التعامل مع الأمور بمنطق قانون الواقع فإن إفشالها لا يزال ممكنا. ومن ثم فالتدارك ليس بالأمر المستحيل بالنسبة إلى المؤمنين بقيم الثورة. مصر بدأت بالفعل. وتونس لا تزال لديها الإمكانية بالقوة. فإذا كان أعداء الثورة يعلمون أن زخم الثورة وحيويتها لا يمكن التغلب عليها ديموقراطيا وتصرفوا بمنطق علمي فقبلوا بالواقع لتمييع الثورة بفضل إفشال المرحلة الانتقالية إفشالا ينهي الحماسة الثورية فيوقف الزخم الثوري فإن الثوار عليهم أن يتصدوا لهذا المسعى.
ذلك أن هذه الخطة تحتاج إلى وقت يمكن أعداء الثورة من جمع صفوفهم واسترداد فاعلية شبكاتهم والتجرؤ المتدرج على المناخ الجديد بفرض المناخ القديم والحط من العتبية الرمزية لرفضه فيحيوا شبكاتهم التي يعتمدون عليها في العودة إلى الحكم بآليات ديموقراطية تبدوا ذات شرعية في حين أنها عين المافيات السابقة. وذلك ما تم تقريبا في جل الوضعيات الانتقالية السابقة. لذلك فإنه يكفي أن نحول دون أعداء الثورة وهذه المهلة التي يحتاجون إليها لجمع الصفوف فنبادر بإبراز الأهداف الأربعة التالية وسعينا الجاد لتحقيقها والتصدي لمعارضيها ممن يريد تعطيل المسار السياسي والجهاز الاقتصادي بالتشويش على الأمن والسلم الاجتماعية. هدفان:
1) أولهما يحقق الدولة المدنية والانتقال الديموقراطي الذي يقنع العالم بأن أصحاب الثورة الحقيقيين بمن فهم من اختار منهم المرجعية الإسلامية في سياسته قادرون على بناء دولة مدنية ذات دستور مدني وديموقراطي ومستند إلى حقوق الإنسان وقيمنا الأصيلة. 2) والثاني ينجز انتخابات شفافة ونزيهة في أجل لا يتجاوز ما وعدنا به أو قريبا منه قربا معقولا. وهدفان: 1) أولهما يحقق الدولة ذات التوجه الاجتماعي والسياسة التنموية التي تقنع الشعب بأن أصحاب الثورة الحقيقيين بمن فيهم من اختار الليبرالية في سياسته قادرون على الشروع في سياسة تنموية تعالج مشكلة البطالة. 2) والثاني ينجز شروط العدل بين الفئات والجهات علاجا بين المعالم من حيث الخيارات والمبادرات في خطة ذات آجال معقولة بمعنى أخذ عتبة الصبر الشعبي بعين الاعتبار. وشرط الشروط لتحقيق هذه الأهداف هو مصارحة الشعب بكل ما يجري وعدم الاستسلام للتضليل الإعلامي وتحفيز شباب الثورة ورفض الشكلانية القانونية التي تستعمل لضرب كل من يحاول أن يحمي الثورة ضد أعدائها. ويقتضي ذلك السعي الجاد لإسناد الشرعية المؤسسية بالشرعية الثورية حتى يكونوا على بينة من معطيات الوضع كما هو دون مهادنة لأعداء الثورة مهادنة قد ينجم عنها خطران على الثورة.
الأول هو محو الفاعلية الرمزية لقيم الثورة وما ينجر عنها من اعتبار احترام الحريات والحقوق تقتضي السماح لأعداء الثورة بأن يسرحوا ويمرحوا فيوظفوا هذه الحقوق للعودة إلى حكم البلاد واستبعاد أصحاب الثورة الحقيقيين.
الثاني هو الظن أن دولة القانون وتواصل الدولة يعنيان المحافظة على قانون الدولة التي وقعت عليها الثورة وعدم الفرز بين تواصل العمل المؤسسي الذي هو مفهوم تواصل الدولة وتواصل ظلم المؤسسات السابقة.
تلك هي الشروط التي تخلصنا من الفهم الساذج لهذين المفهومين اللذين تستند إليهما ألغام الحكومات الانتقالية الثلاث التي تريد ترميم نظام ابن علي والتغطية عليه ببعض المساحيق لمنع نظام الثورة من التحقق الفعلي الفهم الذي لا يصدقه عاقل: فلا يمكن للثورة أن تحكم بقوانين وضعها أعداء الثورة بل لا بد من تعطيل كل القوانين المتنافية مع أهدافها. والظن بأن الحكم بمجرده كاف من دون السيطرة الفعلية على وظائف وزارات السيادة لتكون في خدمة أهداف الثورة والشرعية الثورية لا الشكلانية القانونية من أوهام المنخدعين بمغالطات الثوار المزيفين الذين هم في الحقيقة حلفاء الثورة المضادة حضاريا حتى وإن زعموا الانتساب إلى الثورة سياسيا. والسيطرة الفعلية على وظائف وزارات السيادة ممتنعة من دون إمكانات مادية حقيقية (لعل وعود بعض العرب أوهمت بعض القيادات بأنها ستوفرها) لتوفير الشروط الدنيا لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ومن دون سلطان فعلي على الأجهزة العميقة التي تحرك الدمى السطحية في هذه الوزارات (كما هو بين من أحداث الأمن المعلومة) يمكن أن تساعد على التصدي لمثل هذه المؤامرات المحكمة.