تؤكّد وثائق التاريخ الضارب في القدم أو القريب الجاثم على الرقاب، أنّ العرب والديمقراطية خطان متوازيان لا يلتقيان حتَّى في الحُلْم . وبدا أكيدا أنّه يصعب على العربيّ الماسك بالسلطة أن يتنازل عنها بعد أن حوّل البقاء على الكرسيّ الى قضيّة حياة أوموت. وانّ التاريخ الخالي من العواطف والأهواء، لحَافل ببدايات الحكم المفتوحة بالرؤوس المتطايرة، والمنتهية بتحوّل الجلاّد الى ضحيّة في حلقة مفرغة لم تنته الى الآن. وقد قضت أحكامه بأن يجتهد كلّ مَنْ يجد نفسه بالصّدفة ماسكا بتلابيب السلطة في أن يمنعها عن غيره عبر اطالة فترة حكمه بالقوّة مرّة، وبالتحايل على القانون مرّات .
على هذا النحوبنى العرب العاربة والمستعربة أسس حكمتهم في الحكم. ولن تجد لسنتهم تبديلا مهما تلوّن الخطاب، وتغيّرت الوجوه. حتّى لكأنّ الجور والاستبداد مترسّبان في «الجينات»، وموزّعان بالتّساوي بين الليبراليين واليساريين وأهل اليمين.
على أنّه مع ميلاد فجر أمل جديد، بعد ظهور ثورات مزلزلة قضت على حكام طغاة، هفت نفوس كثيرة الى أن تغيب هذه الصورة القاتمة عن مشهد سياسة الشعوب خاصّة أنّ هذه الثورات العربيّة بدت في منطلقها أصيلة نابعة من وَجَعِ السواد الأعظم من الناس، تبغي القطع مع الظلم، وتنادي بالتوزيع العادل للثروات.
ومع مرور الأيام، وانتهاء شهر عسل الحلم، بدأ يتوضّح ما يمكن أن يُلْجِم هذا الأمل، ويحيي الخوف من أنّ ما جرى ليس الاّ عمليّة تغيير للجلّاد الذي جمّل صورته لأيام معدودات في انتظار أن يكشف وجهه الحقيقيّ، وأن يعود الى دوّامة الاكراه وفرض الاذعان. وازدحمت الأسئلة بعد أن أقدم «مرسي» في مصر على الغاء كلّ ما يمكن أن يمثّل سلطة موازية له. واكتشف الرابضون في ساحة التحرير أنّ ما ثاروا عليه، قد عاد في حلّة «اخوانيّة «جديدة. وفي تونس الخارجة من قمقم «الدكتاتوريّة»، تنادت أحزاب وكتل في البرلمان الى تقديم مشروع جديد منطلقه وغايته ومنتهاه «تحصين الثورة».
في الحقيقة، ان تحصين الثورة مطلب شعبيّ تتساوى في المطالبة به، والمحافظة عليه، كلّ الأطياف السياسيّة. وانّ أيّ فريق سياسيّ ينتهج سلوكا يعادي الخطّ العام الذي من أجله ثار الجياع والمهمَّشون في تونس هو في الحقيقة معاد لهذا الوطن، وغير راغب في خروجه من محنة القهر السياسي الذي عاشته البلاد على مدى سنوات. لقد حكم «بن علي» تونس بالحديد والنار. وألجم أفواه الأغلبيّة. وقضى بأن يعيش معارضوه في السجون أو مهجّرين في المنافي البعيدة دون أن يرى ضرورة البحث عن وفاق وطنيّ. وقد أخذته العزّة بالقوة الى أن يُقْصِي بالجملة دون تفصيل رغم الدعوات الداخليّة والخارجيّة الى ضرورة توسيع أفق التوافق. وقد أمعن «بن علي» في اقصاء خصومه عبر فصول قانونيّة كان يصوغها أهل القانون بدقّة غريبة، ليمنحوه امتيازا على مقاسه، أو ليستهدفوا معارضا بعيْنه. ويذكر التونسيون قانونا ملغزا صدر في الرائد الرسمي، حدّد بالتفصيل ما سيحصل عليه الرئيس المتخلّي من قصر وامتيازات، وفهم منه البعض أن الرئيس يستعدّ لتقاعد مريح!! فهل يعقل باسم «تحصين الثورة» أن تلجأ قوى سياسيّة تمكّنت من السلطة، الى اعتماد طريقة «بن علي» في الانتقام الجماعي، وصياغة فصول قانونية تعدّ على قياس سياسويّ ظاهره تحصين الثورة وباطنه اقصاء جماعيّ أعمى؟؟وهل يمكن للانتقام الجماعيّ دون سند قضائي أن يمهّد الطريق لبناء دولة ديمقراطية تقطع مع منظومة الفساد التي أقامها النظام الظالم السابق ؟ لم يكن التجمعيون ملائكة. ولم يأتوا الى هذه الأرض من السماء لينشروا الحبّ على هذه الأرض. لقد أتى كثير منهم أفعالا دنيئة. وتحوّل بعضهم الى وُشاة متطوّعين لبث الاساءة واشاعة الخوف بين الناس. وسمح حزب التجمع عن قصد لبعض الأميين بأن يسيطروا، وأن يتفننوا في اذلال الناس، وترويعهم . ولكن هذه الحقيقة على مرارتها لا يمكن أن تؤدّي الى أنّ كلّ مَنْ انتمى الى هذا الحزب اقتناعا أوخوفا أو نفاقا، كان شيطانا لا يعرف الا سرقة المال العام، والوشاية، والزج بالناس في السجن. ولهذا السبب، ليس من الصالح لتونس اليوم والغد، أن تُبْنىَ الجمهورية الجديدة على الاقصاء الجماعيّ حتى وان زُيِّنَ بشعارات جميلة. فالرئيس السابق «بن علي» كان يُقْصِي باسم مقاومة الارهاب، وتجفيف ينابيع التطرّف. ولا يمكن أن يتواصل مسلسل الاقصاء تحت أيّ مسمّى، سيّما وأنّ الديمقراطية لا تُقْصِي الا مَنْ أقصاه القضاء، وأثبت تورّطه في الجريمة السياسيّة بصرف النظر عن لونه السياسيّ.
انّ الثورة تُحَصَّنُ بالقانون الذي يمنع تكرار منظومة الفساد، ويقطع طريق كل مَنْ يريد أن يسير بالبلاد الى الدكتاتورية . واذا كان لا يُطْلَب مِنْ الذي عانى من ظلم التجمّع واقصائه، أن يحب التجمعيين، فإنّه في المقابل لا يجب أن يُسْمَحَ له بأن يُفْرِغ شحنة انتقامه تحت مسمّيات ثورية العناوين، سياسويّة المرام والمقصد. نعم التجمّع حزب أفسد، وأجرم في حق البلاد والعباد. لكنّ هذا التوصيف لا يجب أن يؤدي الى فتح باب الانتقام على مصراعيه دون مسوّغات قانونية. وإلا فإنّ الماسك بزمام الأمور اليوم يعيد بناء تجمّع جديد من حيث يظنّ أنّه يهدّم بنيان التجمّع.
ولا يمكن لتجمّعي متورّط في الفساد أو بعيد عنه، أن يفكّر في العودة الى الحياة السياسيّة بعد الثورة. فالشعب قال كلمته، واختار أن ينظر الى الأمام، وأن يترك مآسي الماضي وراءه. وعلى هذا النحو، فالحديث عن «تجمعيين» يريدون العودة للانقضاض على الثورة كلام لا يستقيم، وقد لا يجد مؤيدات من الواقع. أليس من الغريب أن الذين استماتوا في الدفاع عن «الشاذلي العياري» كي يُثَبَّتَ محافظا للبنك المركزي هم أنفسهم الذين يلوّحون بأيديهم مهدّدين بنسف التجمعيين!؟ وهل قادت هؤلاء الى غضّ الطرف غيرُ الحسابات السياسية الضيقة؟؟
انّ قانون اقصاء رموز الفساد والافساد في التجمّع والنظام السابق، ضروري متى كان صادرا عن جهة قضائية مستقلّة تؤسس للعدالة الانتقالية الخالية مِنْ أيّ شكل من أشكال التشفّي والانتقام، وتهيئ لتونس الانتقال من حكم الأسر والعائلات الى نظام المؤسسات المستقلّة والمتكافئة والمتضامنة لبناء وطن للجميع لا يشعر فيها مواطن بأنّه مقصى لسبب سياسيّ أو فكري أو عقائديّ.
ولا يمكن لعاقل اليوم أن يقبل بعودة «التجمّع» وترسانته، وأساليبه في ادارة البلاد. وما هذه الصفحة السياسية السوداء في كتاب تونس الحديثة، الا عبرة تستفيد منها كلّ الأطياف السياسية بغاية اجتثاث منظومة الفساد. وليس المهم اليوم أن يُسُبَّ «بن علي» والتجمع» بل المهم الآن قطع كلّ الطرق التي يمكن أن تؤدي الى ميلاد «بن علي» جديد و«تجمّع» آخر . ولا يكون هذا الا بتحصين الثورة عبر قوانين عامة بعيدة عن التوظيف السياسيّ الأرعن، وبتركيز أسس نظام سياسي متوازن يوزّع مفاصل السلطة على أكثر من جهة كي يقطع دابر الدكتاتورية الكامن في «جينات» العرب.
انّ التونسي ذكي، يميّز المناضل الحقيقي من المزيّف حتّى وان أُجبر على الصمت في غالب الأحيان. ولا يمكن أن تنطلي عليه حيل بعض السياسيين الذين عادوا الى تونس ليشكوا من ظلم «بن علي». ثم يكتشف الجمهور العريض أنهم يركبون سيارات فارهة، ويملكون مشاريع خارج الوطن تدر عليهم الملايين. . لقد فقد هذا التونسي ثقته في كثير من هؤلاء السياسيين. واعتبرهم باعة كلام يسوقون الحلم، ولا يبحثون في النهاية الا عن مجد شخصي يختفي وراء الشعارات المزيفة. .
الحقيقة الثابتة ماضيا وحاضرا ومستقبلا أنّ مَنْ يؤمن بنظرية الانتقام الجماعي لا يمكن أن يبني السّلم، وأن يوطّن النماء والازدهار لأنّ اليوم تونس بحاجة الى كلّ أبنائها، والى كلّ الكفاءات.
والأكيد أنّه عندما يرتقي الوعي الى أن الدولة ليست أصلا تجاريا على ملك حزب سياسي دون غيره، يمكن أن يُعزَّز الأملُ في ارساء ميثاق شرف سياسي جديد شعاره «الوطن للجميع والبقاء للأنفع والأقدر على تحقيق حلم الجياع والمساكين». salah_mjaied@yahoo. fr