كلّما وجدت «الحكومة الشرعيّة» نفسها في عنق الزجاجة هرعت إلى هوايتها الأثيرة. شدّ الرحال فورا إلى المساجد، وركوب المنابر فيها. من المألوف أنْ تستمع، حينئذ، إلى خطب عصماء تُلْقى في المؤمنين المتعبّدين عن جهاد الوزراء «المنتخبين» لخدمة التونسيّين والمسلمين، وعمّا يلقونه في سبيل ذلك من تعطيل المعارضين المشركين لعجلة الجهاد المبين. كذلك، صنع السيّد حمادي الجبالي يوم الجمعة الماضي حين أدبر عن لقاء المعطّلين والمحتجّين وأوى إلى ركن مكين بأحد مساجد جرجيس من ولاية مدنين. واللّه متمّ نوره رغم كيد الجاحدين! كلّما «وقفت الزنقة بالهارب» خرجت علينا الجوقة ذاتها. المدّاحون والطبّالون واللّعّانون والطعّانون. ودائما الإسطوانة هي هي. تعليق ما ظهر من الأزمات وما بطن على شمّاعة الفلول والأزلام وجرحى الانتخابات من اليسار والشطّار. لا يكترث هؤلاء «الحواريّون» إنْ كانت تبريراتهم لسياسة القمع والبطش تجاه المواطنين في سليانة ستزيد من تعميق جراح الشباب والأطفال الذين خرّب أجسادهم، وذهب بنور أبصارهم «رشّ» الحكومة المنتخبة. ولا جُناح عليهم إنْ هم صدّقوا مَثَلَ الرجل الذي عضّ كلبا مسعورا، فرقّت قلوبهم على رجال البوليس الذين يتعرّضون صباح مساء إلى العنف الشديد من «الشعب السلياني» الشقيق !
مدار كلامي، بالأساس، على جوقة أخرى هي جوقة الطبّالين تنبري من منابر بيوت اللّه في مدح حكومة المناضلين السابقين، وذمّ خصومها الملاعين والدعاء عليهم بالشرّ والخسران المبين. يوم الجمعة الماضي 30 نوفمبر 2012 حين كان أبناء سليانة يخرجون في قافلة رمزيّة وهجرة جماعيّة عن المدينة ليبقى فيها والي «النهضة» على الجهة يرعى الشوارع المهجورة والكلاب السائبة والقطط الشريدة، في ذلك الوقت كانت جوقة الطبّالين تعتلي بعض منابر المساجد لتلقي في المصلّين خطبها البتراء والشوهاء عن جميل الحكومة العفيفة النظيفة، وجحود المرتدّين من المعارضات الشركيّة والكافرة. يوم الجمعة الماضي حين كانت كوكبة من شباب سليانة الذين طالهم «رشّ» ذوي القربى يدفعون الآلام ويضمّدون الجراح ويغالبون مصيرا مظلما قد يذهب بأبصارهم، في تلك الأثناء كان الحاكم بأمره على جامع الزيتونة «الحسين العبيدي» ينادي النفيرَ النفيرَ. أمام جمهور من المصلّين (يفترض، مبدئيّا، أنّ فيهم الجمهوريّ والديمقراطيّ والجبهويّ والنقابيّ واليساريّ والليبراليّ جنبا إلى جنب مع النهضوي والسلفيّ والمؤمن العاديّ واللاّأدريّ) دعا هذا «الشيخ» رغم أنف الجميع أئمّة المساجد في كلّ أنحاء الجمهوريّة إلى التصدّي كرجل واحد «للمعارضة اليساريّة دفاعا عن الحكومة الشرعيّة». ولأنّ كذبة المنبر بَلْقاء مشهورة، فلم يغفل عن اتّهام من سمّاهم أعداء تونس (وهو يقصد كلّ من تضامن مع أهل سليانة أو من ساند مطالبهم المشروعة) بإشعال نار الفتنة فيها لتنتفض على الحكم موصيا بضرورة مقاومتهم وأن يكون الشعب لهم بالمرصاد ! ومن معقله الحصين بالجامع الكبير ب»مساكن»، قال بشير بن حسن في خطبة الجمعة «إنّ المعارضة تريد حرق البلاد..». وبنبرته السعوديّة القحّة نبّه المصلّين المرتهنين لديْه إلى أنّ هذه المعارضات المكوّنة من «اليساريّين المتشدّدين ومن بقايا التجمّع « هي أخطر من بن علي (لعلّ الشيخ – دام عزّه – نسي أنّه كان في أيّام العاجلة قبل الرابع عشر من جانفي 2011 يدعو إلى طاعة بن علي باعتباره من أولي الأمر منّا !! ) ولكي يُحكم الطوق على عواطف المصلّين والمتعبّدين أمامه فقد أرسل نبوءته من المنبر بأنّه لو سقطت هذه الحكومة ستقام المشانق للإسلاميّين !
كان هذا «الشيخ» قد أفتى سابقا بأنّ من عارض حكومة النهضة فقد كفر. وها هو اليوم، يخرج معارضيها وضحاياها جملةً من الملّة. ومع ذلك أو بالرغم منه، يجد الرئيس المؤقّت الدكتور المرزوقي وجها لكي يستضيفه في قصر قرطاج، ولكيْ يأتمنه على مناصحة الضالّين من شبابنا المتعصّبين.. وتجد وزارة العدل وجاهة لكيْ تأتمنه على هداية نزلاء السجون التونسيّة وموعظتهم. ومن يجعل الضرغام للصيد بازه....
إنّ انسياق جوقة هؤلاء الطبّالين إلى أدلجة الصراع الاجتماعي والسياسيّ لن يزيد الوضع إلاّ تعقيدا وخلطا للأمور. فهذه المشاكل الاجتماعيّة تنحلّ عبر التشخيص الدقيق والحوار الإيجابيّ والثقة المتبادلة، وليس من خلال توظيف بيوت العبادة للانتصار لفريق ضدّ فريق وصبّ الزيت على النار. ثمّ إنّ الحكومات، اليوم، تنعقد بالانتخاب لا بالبيعة. والانتخابات الديمقراطيّة تقتضي فريقا يحكم وفريقا يعارض وشعبا يراقب عبر مؤسّساته الممثّلة والمستقلّة. وليس كلّ ذلك مِنّة من أحد ولا صيدا في الماء العكر. أمّا أنْ تُزَيّن أفعال الحكومة مهما انحرفت أو قصّرت أو رقصت على واحدة ونصف، ثمّ تجد من يكافئها بالتصفيق والتطبيل والتزمير، فهذه علاقة سمّاها الأقدمون علاقة المأكول بالأكّال، ويجوز أنْ نسمّيها، اليوم، علاقة الراقصة والطبّال ! [email protected]