الأحداث والمستجدات الوطنية الأخيرة تبعث بمؤشرات عن وجود أزمة حوار في البلاد، وحالة الصدام العنيفة بين ابرز فاعلين على الساحة اليوم أي حركة النهضة والاتحاد العام التونسي للشغل تثبت فشل النخبة التونسية في حسن إدارة خلافاتها وتغليب المصلحة العليا للوطن في التوافق والاستقرار لفائدة مصالح فئوية وسياسية وحزبية ضيقة لم تعد تخفي النوايا الانتخابية والتجاذب الأيديولوجي الحاد الذي أضحى يهدد وحدة المجتمع وانسجامه. ان سقوط قيادات النهضة واتحاد الشغل في مربع الاستفزاز وسياسة التعنت وصد الأبواب والتصعيد والعنف ومنطق الاشتراطات يؤكد بصفة جلية غياب ثقافة الحوار لفض النزاعات والخصومات، وبوادر الفشل التي مست مبادرات الصلح تدفع الى الكثير من المخاوف من حصول قطيعة قد تراكم مشكلات البلاد وتفاقم الهواجس حول المستقبل. ان الحوار البناء والجدي هو المدخل الوحيد لتجاوز الصعوبات وتقريب وجهات النظر وفك ما قد يحدث من أخطاء أو سوء تفاهم في التجارب الديمقراطية والتعايش المدني والحضاري ، فما حدث يوم الثلاثاء الماضي في بطحاء ساحة محمد علي - وعلى خطورته - كان يمكن تطويقه ومحاصرة تداعياته لو تم تغليب صوت الحكمة والتعقل وإبقاء أبواب الحوار مفتوحة، ولكن وقد حدث العكس وتهاوت الأطراف المعنية والمساندة من الجانبين الى صب الزيت على النار فان السؤال يتعاظم حول امتلاك النخبة التونسية فعلا لثقافة الحوار.
إن ثقافة الحوار تقتضي قدرا من التنازلات والابتعاد عن الشروط المجحفة ونوايا إفشال مبادرات الصلح التي سارعت إليها بعض الأطراف والشخصيات الوطنية في محاولة لإطفاء فتيل الأزمة وإيقاف مسلسل الاتهامات والسباب ومزيد تعكير الأجواء ، تلك النوايا تضع أصحابها وصدقيتهم في دائرة الشبهة والرغبة في مزيد من شحن الأوضاع وتوتيرها وتُقيم عليهم الحجة في فقدانهم للجزء الأهم من ثقافة الحوار أي التنازل لفائدة المصلحة العليا للوطن وإخماد نار الفتنة.
ثقافة الحوار تتطلب أيضاً امتلاك شجاعة كبيرة وقدرا عاليا من الجرأة في الاعتراف بالخطإ وتقديم الاعتذار إن لزم ، وذلك شرط لازم لا فقط رضوخا للخصم بل هو أمر ضروري لسحب البساط من تحت أقدام الراغبين في مزيد تأجيج الأوضاع وهو المهم في مثل هذه اللحظات.
إنّ الحكماء لا يتوانون عن التنازل والاعتراف بالخطإ وحتّى الاعتذار في أعلى اللحظات الّتي يبدون فيها أقوياء، إنّ ذلك الضعف الّذي قد يبدو للوهلة الأولى تراجعا ونكوصا هو دليل القوّة على التمكين للحكمة ودليل قوّة على قدرة التخلّص من الدوائر الذاتية والحزبيّة والفئويّة الضيّقة إلى دائرة الوطن الأشمل والأكبر والأعم.