للمرة الثانية وربّما للمرّة الثالثة قرأت بمتعة كبيرة رحلة الكاتب الفرنسيّ الكبير أندري جيد إلى تونس في أواخر القرن التاسع عشر حين كانت «الحاضرة» مدينة قديمة هادئة قبل أن تشوّه سحرها ، على حدّ عبارة جيد ،الشوارع الكبرى التي شقتها الإدارة الفرنسية معلنة عن ميلاد مدينة جديدة على تخوم المدينة القديمة. كلّ الكتاب هو عبارة عن نعي للمدينة القديمة التي فتنت أندري جيد كما فتنت عددا كبيرا من الأدباء والرسّامين الأجانب. فهذه المدينة بدت للكاتب الفرنسي مدينة «ذات طابع حميم..منازلها بيض كحبات الفلّ وأنوارها خافتة مثل مصابيح مرمريّة..»..أجمل أوقاتها هو الليل حيث تتداخل الألوان تداخلا عجيبا..فالظلمة تصطبغ بلون بنفسجي، والسماء تصبح خضراء ورديّة» إنّه ليل عجيب مإ إن يستحضره الكاتب حتّى تتداعى إلى ذاكرته ألوان البساتين والبحار والصحارى في وقت واحد .
أمّا المكان الذي ظلّ يستأثر باهتمامه فهو الأسواق. الأسواق التي تفضي إلى متاهة من الأزقّة الضيّقة..يتوغّل الكاتب داخلها، يمضي في دروبها المتشعبة التي تغطيها أشجار العناب ثمّ يعرّج على سوق العطّارين حيث يلتقي بصديقه العطّار الذي خبر بضاعته من سنين كثيرة . يهبط الدرج ويجلس على دكّته ويقتني منه آخر قارورتين حقيقيّتين من العطر المركّز المستخلص من العنبر النفيس وهو العطر الذي أشاد به أصدقاء جيد من صانعي العطور الباذخة في فرنسا...كانت هاتان القارورتان «الحقيقيّتان» أثمن ما اقتناه الرجل من تونس بعد أن باتت العطور مجرّد مستخلصات كيمياويّة لا حياة فيها ولا روح. فللروائح تاريخ وذاكرة ولها أيضا نبض وأنفاس.
يودّع أندري جيد صديقه العطار ويمضى إلى مقهى قريب .تلفت انتباهه باقات الورد الصغيرة (المشموم) يضعها الرجال على آذانهم فتمتزج خصلات شعورهم السوداء بحبات الياسمين البيضاء. في المقهى يجد شخصين يتناوبان على المنصة الصغيرة : الأوّل يرفع عقيرته بالغناء والثاني يسرد بعض الحكايات العجيبة..تشرئب الأعناق اليهما ، ويهتف الحاضرون إعجابا.
يسخر أندري جيد من الفرنسيين الذين يأنفون من الذهاب إلى هذه الأماكن الساحرة ويكتفون بالتجوّل في المدينةالجديدة التي تحرقها الشمس ويعوزها الظلّ...صحيح أنّ الإدارة الفرنسيّة بدأت تعمل على غرس الأشجار في الشوارع الكبيرة التي شرعت في شقها لكن ظلال تلك الاشجار تبقى محدودة إذا قورنت بالظلال التي توفرها المدينة العتيقة..
لا يمكن لرحلة أندري جيد أن تكتمل دون الدخول إلى «محلّ الكاراكوز». يتوجّه اليه على عجل فيرى الأطفال يتزاحمون على الباب في فوضى عارمة ممنّين أنفسهم بمشاهدة عرض من عروضه الساخرة..يندفع جيد مع المندفعين فيجد نفسه في باحة المحلّ حيث المتفرجون يقتعدون الأرض..وينظرون فاغري الأفواه إلى العرائس الخشبيّة تتحرك ظلالها فوق قطعة من قماش. يجلس أندري مع هؤلاء ويملأ، مثلهم ، جيوبه بحبوب اليقطين المملحة وبقطع الحلوى ويبقى ينظر إلى هذا الشكل المسرحي البدائي. يكتشف الكاتب بعد نهاية العرض أنّ هذا المكان، محلّ الكاراكوز، يتحوّل فجأة الى ساحة ألعاب: شيخ يلاعب حيّة، رجل يقرع طبلا، طفل يعزف على مزمار القربة ..إنّه مهرجان كبير من الألوان والأصوات...
في طريق عودته يصرّ اندري جيد على الدخول إلى مقهى الحلفاوين...هو أدرى الناس بكراهيّة التونسيين للمحتلّ الأجنبي لكنّه أقدم مع ذلك على زيارة هذا المكان الجميل ..إنّه مقهى شاسع ،يرتاده أهل تونس، يحتسون قهوته وشايه اللذيذين ويتجاذبون داخله أطراف الحديث ولا شكّ في أنّ المستعمر الذي جاء من وراء البحر ينتهك حرمة ترابهم كان مدار جدلهم الطويل ..يعرف أندري جيد جيدا أنّ أهل المقهى قد استقبلوه على مضض لكنه مع ذلك اتخذ له مقعدا داخل المقهى وظل يراقب من بعيد ساحة الحي.
يقول أندري جيد إنّه أراد أن يرى، قبل أن يخلد إلى النوم، الفرقة الموسيقية العسكرية الفرنسيّة وهي تعود الى ثكنتها. اتجه نحو الطريق التي تسلكها. وقف قريبا منها يتأمل وجوه الجنود المبتهجين.. نظر حوله فلم يجد تونسيا واحدا يقف محتفلا بالفرقة..لقد ظلّ الجميع داخل مقاهيهم يستمتعون بموسيقاهم.. يهمس اندري جيد: لابدّ أنّ أهل تونس يتذكرون اليوم الذي دخلت فيه هذه الفرقة منتشية بالنصر غداة الاحتلال. ثمّ يردف قائلا: أنا حزين لأنّ أهل هذا البلد يقابلوننا بكلّ هذا الجفاء، بكلّ هذه الكراهية.