يوم السبت 22 ديسمبر 2012 افتُتِح معرضٌ لبيع ما صُودِر من مُخَلَّفات بن علي وعصابته، وحضر رئيس الحكومة المؤقّتة مدجّجًا بعدد من الوزراء والسفراء، والتُقطت صُوَرٌ تذكاريّة لبعض علْية القوم الجُدُد، لا جنب نجومٍ أو مبدعين، بل جنب الأحذية وما حذا حذوَها من وسخ دار الدنيا! لم ينجح عباقرةُ هذا المعرض إلاّ في أمر واحد: تدشين عهد الروبافيكا الرئاسيّة بشكل رسميّ، في ضحِكٍ صارخ على الذقون، وفي استفزاز مجانيّ لمشاعر ضحايا الوضع الاقتصاديّ الكاسر، وفي مشهدةٍ استعراضيّة عقيمة، تعيد إلى الذهن قول الشاعر: لقد هزُلت حتى بدا من هُزالِها..
بدا واضحًا من خلال أغلب التصريحات إحساسُ الجميع بأنّهم يدخلون مغارة علي بابا! لكنّ عبارة افتح يا سمسم لم تعد كافية، وعلى كلّ من أراد دخول المغارة الجديدة أن يتخفّف من 30 دينارًا كي يُشبع فضوله أو شماتته أو نهمه أو رغبته في العبرة والاعتبار، كلٌّ حسب ما يرشح به إناؤه!
لم يبدُ على مفتتحي المعرض أيّ انتباه إلى مكر الصور والتصريحات التي وُثّقت لهم فيه. وكأنّ أطلال السلطة التي ظنّت أنّها مؤبّدة وداهمها المؤقّت ليست درسًا كافيًا للسلطة المؤقّتة كي تكفّ عن محاولة التأبّد! وكأنّ عدوى السارق بمنأى عن المتظارف الذي يضع قدمه في حذاء السارق!
لم يمرّ الأمر طبعًا دون تشكيك البعض في أهليّة الحكومة لبيع ما لا تملك! وهو ما ردّ عليه آخرون بالإلحاح على 20 مليون دينار من العائدات قد تُضخّ في الميزانيّة! دون أن يفهم إنسيٌّ أو جِنِّيٌّ هل هو معرض غنائم أم مسروقات؟
لو قال المتحاذقون إنّها غنيمة حرب لكان لابدّ من الرجوع إلى حُكم تقسيم الغنائم: خُمسٌ لله وأربعةُ أخماس للمقاتلين. وليس من شكٍّ هنا في صعوبة التمييز بين الحرب والثورة! فضلاً عن ورطة غموض السياق الراهن، الذي وضع على سدّة الحُكم غانمين من غير المقاتلين!!
ولو أشاح الجميع عن فكرة الغنيمة لكانت الورطة أكبر بسبب رُجحان فرضيّة بيع المسروق. فالكلّ يعرف أنّ الاسم الثاني لبن علي والطرابلسية هو عصابة السرّاق.. والكلّ يرجّح أنّ ممتلكاتهم مسروقة من مال الشعب..
لابدّ هنا من ترسانة فتاوى للدفاع عن هذا المعرض، في ضوء الإجماع على أنّ العلم بأنّ المبيعَ مسروقٌ لا يُجيز بيعَهُ ولا شراءَه! ولابدّ لهذه الترسانة من عبقريّة فذّة كي تقنع المواطنين بجواز ضخّ العائدات في مشاريع التنمية مع رجحان أنّها مال حرام! وعلى هذه الترسانة الإفتائيّة أن تأتي بالمعجزات للردّ على علماء الأُمّة الذين يقولون بوجوب رد المسروق إلى من سُرق منه، موسرا كان أم معسرا، بدليل أن الرسول الكريم ردّ على صفوان رداءه، وأنّه قال على اليد ما أخذت حتى تؤدّي!!
ليس من شكٍّ في أنّ الشعب التونسيّ هو المالك الحقيقيّ لكلّ ما في المعرض. وإنّ من الظلم أن يُسرَق مرّتين وأن يُمَنَّ عليه بعائدات بيع مسروقاته. والأفضل أن يُترك الأمر لغير المؤقّتين كي لا تطالهم الشبهات، وفي انتظار ذلك، أن توضع المُخلّفات على ذمّة الشعب في متاحفه عبرةً لمن يعتبر.
وكم كان مطلوبًا طبعًا أنّ يُحفَظَ للعبرة والاعتبار نصيبهما من الحدث. ولو حصل ذلك لرأى الحاضرون في ما حدث مدعاةً إلى التواضع، ودافعًا إلى العدل، وبرهانًا على سوء مآل الطغيان، ودليلاً على زوال السلطان مهما طال.
إلاّ أنّ الهدف من وراء تلك المشهدة الفجّة لم يكن سوى عرض البذخ السابق فريسةً يتسلّى بها الفقر الراهن! وفاتَ عباقرةَ الحكومة أنّ السؤال «من أين لك هذا» لا يميّز بين السابق واللاحق!! وهو جوهر ما ذهب إليه كونفوشيوس حين قال: «إذا كان الفقر المدقع عارًا في بلد محكوم بشكل جيّد فإنّ الثراء الفاحش عار في بلد محكوم بشكل سيّء..».
وبعد هذا وذاك.. لن يبقى من صورة هذا المعرض إلاّ رمزيّة الروبافيكا بوصفها «مشروع» الترويكا الوحيد، دون تعميم: مُخلّفات بن علي في الفندق تُطابِقُ مخلّفاته على أرض الواقع: الالتفاف على الحقوق والحريّات، إفراغ الديمقراطيّة من مضمونها، الهيمنة بواسطة العنف.. كلّها من «فريب» بن علي وخردواته!
ويبقى السؤال: متى تخرج تونس من زمن الروبافيكا البنعليّة ومن دكاكين «الترُويْكافِيكا» الخلافويّة والأفغانيّة والميليشياويّة والنفطويّة والأمبرياليّة، لترفل في ثيابٍ جديدة وعقولٍ جديدة وذهنيّات جديدة وسلوكات جديدة تليق بمواطنين أحرار موفوري الكرامة في ديمقراطيّة حقيقيّة؟