احتضنت مدينة دوز أيّام الفيلم الوثائقيّ في دورته الثانية من 26 إلى 30 ديسمبر 2012. وكانت هذه الدورة حافلة بالعروض السينمائيّة والفنّ الشعبيّ والشعر وحلقات النقاش، واستطاعت على امتداد أيّام أن تطبع إيقاع المدينة وأن تجعل من السينما مركز اهتمام الجميع. لم تدّخر إدارة المهرجان أيّ جهد في سبيل إنجاح هذه الدورة. وكان دينامو المهرجان المخرج السينمائيّ هشام بن عمّار حريصًا على انتقاء الأفلام، واختار للجنة التحكيم أسماء مرموقة من إيطاليا وإسبانيا وبوركينا فاسو وتونس برئاسة المخرج المعروف محمود بن محمود.
شارك في مسابقتي الأفلام الطويلة والقصيرة عشرون فيلمًا لمُخرجات ومُخرجين من مختلف الأجيال ينتمون إلى أوساط اجتماعيّة متنوّعة ويمثّلون مختلف جهات الجمهوريّة. وتناولت هذه الأفلام العديد من المواضيع، بدايةً من ضحايا الفقر والتهميش في رجيم معتوق والمحمّدية وجبل الجلود وغيرها، مرورًا بمعاناة المرأة وما تتعرّض إليه من عنف، وصولاً إلى ضحايا التعذيب في سجون القمع السياسيّ، دون أن ننسى صُوَر الإصرار على الأمل والمُقاومة وحبّ الحياة.
ولعلّ أهمّ ما أتاحه لي وجودي ضمن لجنة التحكيم الوقوف على النقلة السريعة التي شهدها الفيلم الوثائقيّ التونسيّ بعد 2011، إذ انفجر المكبوت وانهارت الموانع وأمكن للعديد من الأفلام أن تضع الكاميرا على الجرح وأن تُفسح المجال للتعبير الصريح والشهادة الجريئة، مبرهنة على جدارة الفيلم الوثائقيّ بموقعه من الثقافة بشكل عامّ ومن السينما بصفة خاصّة.
لم يعد الفيلم الوثائقي يستمدّ هويّته من اختلافه الجذريّ عنه الفيلم التخييليّ. كما أنّ الهويّة الوثائقيّة لم تعد كافيةً لمنح الفيلم صفته السينمائيّة. الفيلم الوثائقيّ ليس محض توثيق بل هو لا ينجح في ذلك إلاّ بفضل درجة معيّنة من السينمائيّة، أي بفضل درجة معيّنة من التخييل الذي لا يُفسد للتوثيق قضيّة. من ثمّ أهميّة الفيلم الوثائقيّ ومن ثمّ خطورته وصعوبته.
أمّا أهميّته فمردّها إلى أنّه ذاكرة حقيقيّة تمدّ الجذور بأجنحة وتجعل الحلم مبنيًّا على قراءة عميقة للموجود ومؤسّسًا على تشخيص صحيح للواقع. وأمّا خطورته فمردّها إلى أنّه شهادة صريحة وتعبير عن سينما القرب التي تذهب إلى الناس حيث هم فتمنح الصامتين صوتًا وتجعل المنسيّين حاضرين والمخفيّين مرئيّين. وأمّا صعوبته فمردّها إلى أنّ الذاكرة والشهادة معرّضتان إلى التلاعب والتزوير. لذلك يحتاج مؤلّف هذا النوع من السينما إلى نفس ما يحتاج إليه مؤلّف الفيلم التخييليّ من موهبة وحرفيّة، إضافة إلى درجة أكبر من الشجاعة والإيطيقا.
بسبب أهميّته وخطورته لم يزدهر الفيلم الوثائقيّ إلاّ في الديمقراطيّات. أمّا في بلادنا فقد ظلّ في معظمه وعلى امتداد عقود عملاً مُحاصرًا، مُهمّشًا، مُلحقًا بنشرات الأخبار الموجّهة، وجزءًا من البروباغندا الساعية إلى ترويج بطاقة بريديّة لا علاقة لها بواقع البلاد ولا صلة لها بحياة الناس.
على الرغم من هذا الحصار استطاع عدد من المبدعين المقاومين إنتاج أعمال قيّمة ومستقلّة حاولت قدر المستطاع التغلّب على معضلات الرقابة والإمكانيّات. إلاّ أنّ الوضع العامّ جعل أفلامنا الوثائقيّة في مجملها، مع احترام الاستثناءات، ضعيفة التصوّر والبناء، مكتوبة في أغلبها بشكل أفقيّ خطّي يطغى عليه غياب المؤلّف، الذي يقوم بترصيف اللقطات الواحدة جنب الأخرى، وكأنّه لا يجد له دورًا، فيكتفي بين الحين والآخر بإقحام أغنية أو قصيدة أو تعليق يمكن الاستغناء عنه بسهولة. لتغيير هذا الوضع وللمساهمة في تحرّر الفيلم الوثائقيّ من نتائجه، تبلورت فكرة هذا المهرجان في مخيّلة السينمائيّ هشام بن عمّار وتجسّدت على أيدي الفريق المحيط به ووجدت بيئتها الملائمة هناك في الجنوب المتوهّج مواهب وعطاءً.
كلّ شيء في هذا المهرجان مجعول لخدمة السينما الوثائقيّة وتجديدها وإثرائها بطاقات شابّة متحمّسة: حتى اختيار مدينة دوز مقرًّا له إشارةً إلى ضرورة الخروج من فكرة المركز للاقتراب من الناس والالتحام بهم حيث هم. حتى اختيار الخيمة لعرض الأفلام تأكيدًا على أنّ حبّ السينما لا يعترف بالعراقيل وإن تمثّلت في تقلّص قاعات العرض. فإلى الدورة القادمة، وكلّ عام والسينما الوثائقيّة التونسيّة بخير.