من منكم تجوّل مساء أول أمس بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة؟! ألم تأخذك لغة الألوان بعيدا عن لغة السياسة التي استبدّت بهذا الشارع، وسلبته نكهته الفنية الثقافية؟!.. أكد أن رمزية شارع بورقيبة الثورية لها مذاق خاص، وسيظل عطرها الوطني منقوشا على صفحات تاريخ الإنسانية.
إلا أن هذا الشارع ظل طيلة سنتين كاملتين فضاء للتجاذبات والنقاشات السياسية، ومعبرا للمارة في حياتهم اليومية، ويبدو أن منظمي هذه التظاهرة كانوا واعين بنبض هذا الشارع، فزرعوا به الإبداع الفني والثقافي ليتوسط أشجاره، علّ الطيور المقيمة بها تستعيد معنى الجمال الذي أتلفته السياسة وألقت به في سلة مهملاتها، ولعل المواطن التونسي يشعر بطمأنينة ولو وقتية لأنه في حضرة الفن يوجد الاستقرار، وفي حضرته أيضا يتدفق معنى الجمال.
أول أمس تجمّع عدد من الفنانين التشكيليين بالشارع الرئيسي بالعاصمة وكل على طريقته وبإحساسه الفني الرهيف تكلّم بالألوان، تاركا اللّسان لمهام أخرى، لا تعطي اطلاقا معنى للوجود.
لا يمكن الجزم بأن روّاد شارع الحبيب بورقيبة لم يتحدّثوا عن السياسة، بيد أن الفن جعل الحديث همسا، لأن العين تعشق قبل الأذن أحيانا، وحتى الأذن عشقت مع العين لمّا استمتعت بأغاني منير الطرودي منذ يومين ومازالت ستستمتع بأحلى الأغاني الملتزمة خلال عيد الثورة الثاني بهذا الشارع.
وأنت تتجول في هذا الشارع وتتابع عروضه الفنية المختلفة تشكيلية كانت أم موسيقية أم أدبية، لا يمكن ان تشعر بالحزن، فالنفس على حد تعبير الفيلسوف الاغريقي أفلاطون، «إذا حزنت خمد منها نورها فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد».
أحد روّاد شارع بورقيبة من الفنانين، التقيناه صدفة هناك بين الأشجار في الشارع نفسه، عينه وإياه، سألناه عن أحواله، فقال انه تائه في شارعه، الى درجة نسيانه تناول وجبة الغداء...
الأكيد أن هذا الفنان لم يكن في حاجة الى غذاء البطن لأن غذاء الروح أنساه الغداء وكما تقول الحكم القديمة: «الفن غذاء الأرواح كما أن الأطعمة غذاء الأشباح»... ليت شارع بورقيبة يتحول من مجرد شارع من شوارع العاصمة الى فضاء يومي للثقافة والفنون والابداع، ذاك يمسك ريشته وآخر يحمل ڤيتارته وآخر يصدح بصوته معرّفا بنفسه، لا ببذيء الكلام.. فعندها قد «نتوصل الى خير الدنيا والآخرة»، فالفنون كلّها ألحان، والألحان كما وصفها صاحب «العقد الفريد»، «تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف وصلة الأرحام والذبّ عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب».