لم يعرف شارع الحبيب بورقيبة حضورا في وسائل الإعلام مثلما يعرفه منذ 14 جانفي، الذي كان الشارع الطويل فيه رحى الأحداث التي عصفت بنظام بن علي لا حديث منذ أيام في الشارع التونسي في البيوت ووسائل الإعلام وفي المجالس إلا عن شارع بورقيبة الذي منعت فيه المظاهرات قبل أن يتم التراجع عن القرار أو «تعديله» حسب البلاغ الرسمي لوزارة الداخلية على أثر ما جد من أحداث عنف يوم 9 أفريل أتهمت فيها النهضة وقوات الأمن التي عنفت المتظاهرين ومازال الملف مفتوحا عند الجهاز القضائي في انتظار ما ستسفر عنه التحقيقات.
حضور شارع الحبيب بورقيبة في المخيال التونسي ليس جديدا، فهذا الشارع يحضر باستمرار في الفن وفي السينما وفي المسرح وفي الموسيقى والأغاني وفي الروايات والقصص وفي القصائد.
فلا نكاد كاتبا تونسيا واحدا من المقيمين في العاصمة أو حتى من الوافدين عليها لم يستحضر هذا الشارع بعصافيره وأشجاره وعشاقه ومقاهيه وليله وحاناته ومطاعمه. إنه الشارع الذي يختزل الذاكرة الثقافية التونسية فمقاهيه هي المكان المفضل للكتاب والشعراء والسينمائيين والمسرحيين والفنانين التشكيليين فمن مقهى باريس إلى «الروتندة» و«الكيلت» و«لينفار» و«البلاص» و«العين» و«فلورانس» تاريخ من المعارك الثقافية التي كان أبطالها أشهر رموز الثقافة التونسية فمجموعة مدرسة تونس في الفن التشكيلي مثل عمار فرحات وحاتم المكي وزبير التركي والهادي التركي لم يكن لهم لقاء أفضل من مقهى باريس وكذلك مجموعة فرقة بلدية تونس للتمثيل مثل علي بن عياد وجميل الجودي ونور الدين القصباوي والهادي السملالي وعمر خلفة وعبد المجيد الأكحل والبشير الدريسي وعبد العزيز المحرزي وغيرهم كانت لقاءاتهم ومازالت موزعة بين مقهى باريس وفلورانس...أما مجموعة رابطة القلم الجديد مثل علي شلفوح والميداني بن صالح وجمال الدين حمدي والشاذلي زوكار فكان مقهى لينفار هو مكانهم المفضل في حين اختار البشير خريف وزبيدة بشير وأبو زيان السعدي ومحمد العروسي المطوي مقهى المغرب قبل أن يتحول إلى محل لبيع الملابس الرياضية.
فضاء الحرية
شارع بورقيبة حافظ على قدرته على جمع المبدعين إلى اليوم، ففي مقاهيه يلتقي الفنانون والشعراء وفي الشعر التونسي يحضر شارع بورقيبة بعصافيره وسمائه الربيعية وأشجاره وباعة ورده بكثافة في قصائد سوف عبيد ومنصف المزغني وأولاد أحمد وفي روايات حسن بن عثمان وحسونة المصباحي وفي مسرح فاضل الجعايبي وفي سينما محمد الزرن ومحمد بن محمود والجيلاني السعدي وفي لوحات الحبيب بوعبانة الذي كان أمير الشارع بلا منازع.
وهذا الشارع لم يكن فضاء للأبداع والمبدعين فقط بل فضاء للعشاق عشايا السبت عندما كان الزمن غير الزمن، عندما كان هناك متسع للأحلام قبل أن تزحف ثقافة السواد وتنهار تجربة قاعات السينما ويفقد الليل بهجته بل يكاد يتحول إلى كابوس فبمجرد حلول الظلام يقفز الشارع من مريديه ويحتله آخرون لا نراهم عادة خلال ساعات النهار.
إن مدينة تونس لن تحيا كعاصمة مالم تتم المحافظة على هذا الشارع كمعلم جدير بأن يكون ضمن التراث الذي يحتاج إلى حماية من اليونسكو حتى تتم المحافظة على معالمه مثل المقاهي ذات البعد التاريخي كلينفار وفلورانس والروتندة ومقهى باريس لارتباطها بالذاكرة الثقافية الجماعية.
هذا الشارع له رمزية خاصة ففيه خرج التونسيون مطالبين بالحرية وفيه عانى الطلبة من اليسار والقوميين والإسلاميين من عنف الأمن وفيه كتبت القصائد والمسرحيات والروايات وسيناريوهات الأفلام، إنه شارع الثقافة والعشق، شارع الحنين والذكريات وشارع 14 جانفي الذي كتب تاريخا جديدا لتونس مازال زمن تقييمه مبكرا.