لم أعرف الخذلان الذي ذاقه شقّ من التونسيّين «علّقوا» آمالا عريضة على التحوير الوزاري المرتقب. على العكس من هذا الفريق، فإنّي استسغتُ كلمة السيّد حمّادي الجبالي وهو يكاشف شعبه مبتسما بأنّ اختلاف المواقف داخل «الترويكا» قائم، وبأنّ مشاوراته مع الأحزاب والأطراف السياسيّة قصد إجراء تعديل حكوميّ قد فشلت. نعم. وما كان أنجح هذا الفشل ! لست من الشامتين – معاذ اللّه - فأنا أحرص ما يكون على نجاح التجربة على علاّتها، وأحرص ما يكون على توجيه أشرعة السفينة ليكون مرساها برّ الأمان. مبعث رضاي أنّي وجدت في هذا الفشل طعم النجاح، وإن يكن نجاحا مؤقّتا. إحساس أقرب لما يسمّيه علماء التربية «بيداغوجيا الخطإ». كان ينبغي أنْ تفشل مشاورات رئيس الحكومة في صيغتها الترقيعيّة ليعترف بلسانه ويعترف غيره بأنّ التحوير ليس غاية في حدّ ذاته بقدر ما هو آليّة لإقلاع جديد يكون على أسس سليمة أو باتّجاه «تعاقد سياسي جديد» بعبارة السيد الجبالي نفسه في كلمته عشيّة السبت الماضي.
ولقد كنت في ورقتي السابقة «الذي يأتي ولا يأتي» دعوتُ أهلَ الذكر كي لا يسارعوا إلى تحوير وزاري بلا قاعدة اتّفاق ولا خطّة عمل أو منهج طريق. ولشدّ ما كانت خشيتي من مضيّ رئيس الحكومة إلى تحوير شكلانيّ يتمّ به استرضاء بعض الأسماء وإنْ تكنْ غيرَ ممثّلة أو غير ذات ثقل جماهيريّ ولا سياسيّ.
لو فعل السيد الجبالي ذلك، لكان ذرّا للرماد في العيون أو إلهاء مقصودا للرأي العامّ. إلى هذا الحدّ، يمكن أنْ نعتبر أنّ التعقّل والواقعيّة غلبا على نزعات العناد والمكابرة والمقامرة السياسيّة. وتمّ ترحيل الملفّ إلى قادم الأيّام ريثما تنعقد محادثات جديدة أو تفاهمات أخرى على أسس سليمة. ويبقى ذهاب الجبالي إلى المجلس الوطنيّ التأسيسيّ لعرض تشكيلته الوزاريّة عليه – يبقى بمثابة خطوة محفوفة لا بالاعتراضات من داخل حركة «النهضة» فحسب، ولكنْ أيضا بالتعقيدات الدستوريّة بمقتضى ما ينصّ عليه الدستور المنظّم للسلطات العموميّة في هذه الحالة من إجراءات وتمشّيات.
حسنا فعل السيد الجبالي حين مدّد في «أجل» التحوير، وفي المقابل أكّد أهمّية الحوار والتوافق الوطنيّيْن عوض العمليّات الترقيعيّة التي لا تعمل إلاّ على تغطية الجرح عوض علاجه الموضعيّ.
كلام من هذا القبيل لم يعد حكرًا على أصوات المعارضة، بل شاطرهم إياه رموز الحكم داخل «الترويكا»، واعترف السيّد الجبالي نفسه أنّ فشل مفاوضاته مع الأحزاب والأطراف السياسيّة ليس مردّه الخلاف على الحقائب الوزاريّة، ولكنْ مردّه عدمُ الاتّفاق على أرضيّة سياسيّة يقع الانطلاق منها من جديد للوصول إلى الانتخابات القادمة. نائب رئيس حركة «النهضة» الأستاذ عبد الفتّاح مورو له نفس التقييم في تصريحه لجريدة «المغرب» (في 25 – 1- 2013) بأنّ الأحزاب التي تمّ الاتّصال بها والتفاوض معها «لا ترى جدوى من تغيير مواقع وزاريّة بل تطالب بخارطة طريق، وكان من المفروض تقديم برنامج للمرحلة القادمة إلى هذه الأحزاب. أمّا تغيير وزير بوزير فهذا أمر لا يفضي إلى أيّ جدوى». ويضيف الأستاذ مورو بوضوح أنّ المنتظر «هو أساسا تغيير السياسة بعد أن تبيّن وجود أخطاء. فالقائمون على شأن هذه البلاد لم يحدّدوا سقفا واضحا للمحطّات والمواعيد القادمة التي تهمّ الشأن العامّ للبلاد.. حتّى الآن. فالقضيّة قضيّة منهج.»
لو اطّرحنا الماضي، وعملنا، الآن، على ترجمة هذه الاعترافات المتأخّرة لرموز الثالوث الحاكم، ولحركة «النهضة» على وجه التحديد، فضلا عن رموز المعارضة والنخبة السياسيّة إلى استخلاصات دقيقة لقلنا إنّ المدخل إلى التحوير مدخل سياسيّ لا حكوميّ تقنيّ، وإنّ المطلوب فورا هو الدخول في حوار وطنيّ شامل لا يقوم على الاستثناء أو الإقصاء. حوار قاعدته التوافق على أرضيّة سياسيّة وخطّة جماعيّة في تدبير المرحلة الانتقاليّة المتبقّية بإحداثيّاتها وروزنامتها ومواعيدها قبل الوصول إلى انتخابات المرحلة القادمة. [email protected]