افترشوا الأرض في طقس أبى الا ان يكون قاسيا ..أمطار تهطل..تنقطع ثم تعود, رياح تعصف بكم تلك الحشايا والأغطية بعد ان تم منعهم من نصب خيمة للاحتماء ليلا.. و صاحب المقهى يتغاضى احيانا عن استعمال مساحته الخارجية المغطاة وأخرى يعلن امتعاضه.. اختلفت الملامح والوجوه وتفاصيل تلك التجاعيد التي تروي السنون التي مرّت بلا رجعة ...كما اختلفت الأسماء ..لا يهم ان كنت بشير . عادل أو محمد, فريدة أو منية ..المهمّ هو أن القضيّة واحدة والجلاّد واحد. اعتصام «الكرّاكة بيت 1» و«البيّاص»....لا يعرفه الا من مرّ ذات تاريخ «بالسيلون» ...افترش الارض ..وتثقلت رجله بالكبالات في مساحة 30 صنتمترا حيث يأكل «الصبّة» ويقضي حاجته البشرية .وينام مرفوقا بحشرات «البوفراّش» ذات 16 ساقا ...عاري الصدر ..لا سند له إلاّ زاورة. بامكانها أن تتحول هي الاخرى الى كفن عاجل في قبر مجهول.
لا أحد ينسى
لا أحد ينسى .يذكرّونك بأسماء الجلاّدين إسما إسما وكأنما يتسامرون في ليالي ألف ليلة وليلة.. «عكّة والتيساوي والجديدي ..وملوخية»..عناوين مختلفة لنفس واحد عنوانه «إنتماء» كما يذّكرونك بكل التفاصيل وكأنها حدثت بالأمس القريب جدّا...ما تمكّن الزمن من تلك الذاكرة التي بقيت تحتفظ بكل السجّلات .. هنا يكمن ما تبقى من الحقيقة بصورة أصحابها......حتى الغائبون بالموت فالوجيعة متعددّة والطلب واحد تفعيل المرسوم عدد 1 لفيفري 2011 الخاص بالعفو التشريعي العام.
صامدون
«صامدون» هكذا تحدث محمد العقربي الناطق الرسمي باسم الاعتصام الذي يدخل يومه الثالث عشر والمجموعة التي تضم شرائح مختلفة من المعنيين بالمرسوم الذي أقرّته حكومة السبسي مؤكدا اتفاقهم كمعتصمين بالبقاء بعيدا عن كل التجاذبات السياسية والجهوية والجمعياتية وبانفتاحهم على الجميع ودعوتهم للتعاطي معهم كمسألة وطنية عمقها الشعب.
تعثّر للملف
يقول محمد ان الملف تعثر في محطات مختلفة من فيفري 2011 وعثّرتهم الاطراف المتداخلة حكومة اولى ما قبل شرعية 23 اكتوبر و حكومة 23 اكتوبر التي لم تتعامل بالجدّية المطلوبة مع الملف ولم تعتبره أولوية ثم الرابطة الوطنية المتمثلة في الجمعيات التي دعت الى تبني هذا المشروع ولكن لم يجدوا بعد عامين من الثورة نتائج ترتقي الى مستوى انتظاراتهم فقرروّا ان ينزل السجين بما يحمله من خلفية نضالية سياسية الى القصبة برمزيتها محتجا غاضبا يعبّر عن نفسه وعن صوته وبنبرته التي اختارها دون وسائط معتبرا ان السجناء هم قوة احتجاج..وأن ملف العفو العام أصبح محل تجاذب لان العدد الكبير والأغلبية الساحقة من المعنيين هم من مساجين حركة النهضة رغم ان مطلب العفو العام كان متفقا عليه وبالاجماع لكن حاليا أصبح لغما يفرّ منه الجميع ويخافون تفعيله وانهم لا يريدون قراءة النوايا. هي لبنة ونحن تواصل
يضيف محمد: «لكن مع ذالك نثمن كل من ساهم في التعاطي مع الملف حكومة أو تأسيسي أو جمعيات أو احزاب سياسية أو شخصيات وطنية ونعتبروا ما قاموا به خطوة جيدة ومع ذلك هي خطوة لم ترتقي الى مستوى ما نطمح اليه ونرتضيه هي لبنة ونحن تواصل» نعم احتجاجنا هو احتجاج سلمي لذلك اخترنا له شعارا رمزيا فيما بيننا وقلنا هذا «اعتصام الكراكة بيت 1» فالموجودون هنا هم أولاد «السيلون» ...هاته الرسالة غير مشفرة فمن يجلس وراء المكاتب في القصبة يعرف من هؤلاء ويعرف «الكرّاكة». لسنا حالات اجتماعية
ما يؤلم انهم قدمونا كحالات اجتماعية وكفئة متسولة مختلسة غنيمة حتى من نيران صديقة ..تعاملت معنا بعض الجمعيات الحقوقية بعقلية خيرية وكأننا في حاجة لبطاقة علاج أو مساعدة ...في حين نحن أصحاب حق وحق أصيل. نحن تونسيون ووجب التعامل معنا كتونسيين لا كملفات وأرقام وهنا تكمن المصيبة..لقد فقدت السياسة بوصلتها وأخلاقها.. اليوم هناك أزمة اخلاقية في التعاطي مع هذا الملف ولا سبيل للخروج منها الا بإرادة سياسية.. نحن نرفض ان يتعامل معنا كبند في الميزانية أو مشروع قرض نحن الحق ونحن صامدون وسنبقى صامدين في نضالنا.
الجّلاد والضحّية
ردّا على سؤالنا بخصوص تخّوف البعض من الاعتراف بالسجين السياسي وبالتالي محاسبة الجلاّد يقول محمد: «هناك اختلاف في هذه المحطة بالذات بين مسار العدالة الانتقالية ومسار العفو العام واكيد سيلتقون في نقطة ما فالمحاسبة والتقاضي مسألة موكلة في مسار العدالة الانتقالية اما العفو العام فهو تعاط يفترض السياسي والحقوقي اما الجّلاد والضحّية فلسنا في حاجة لقوانين او أبحاث لنقر بوجودها ..فالضحية موجود ..والجلاد موجود ..والألم موجود ..والمعاناة موجودة ,,واسألوا أقبية الداخلية ففي كل جدار حكاية ..وفي كل باب من أبواب السجون ألف حكاية وكما قال صديقنا في جماعة «غسّالة النوادر»: أخبار الناس عند الناس أخبار الحاكم في التلفزة ..«وهاته الرسالة الى من اعتبرنا هامشيين وتحت طائلة ما يسمونها «الحقرة» أقول لهم السجين السياسي متمكن من أدوات التحليل والتركيب فثقافة المشافهة التي مارسها من سجن الى سجن ومن غرفة الى غرفة ومن زنزانة الى زنزانة مع باقي أبناء وطنه علّمته كيف يصوغ المعنى مكثفا مختزلا ..جملة الحياة دون مقدّمات وهذا هو عنوان اعتصامنا».
مطلبنا واحد ثلاثي الأبعاد
يختم محمد كلامه: «هذا الاعتصام هو احتجاج على الظلم والمظلومين الدائمين التي مازلنا نعاني منه، صرخة لنقول للجميع ان الدستور يكتب للإنسان والقوانين صيغة لتنير حياة الانسان.. والحكومات الرشيدة تحكم من أجل الانسان فأتى الوقت حتى نؤمّن العمل السياسي.
مطلبنا واحد ثلاثي الأبعاد ..الاعتذار – ردّ الاعتبار-التفعيل ..مشكلتنا مع جهاز الحكم الذي سميّ في غفلة منا دولة وظلمنا بحكم ولي الامر واختطفت حياتنا وفرصة وجودنا الاجتماعي بحكم المقيمين في القصور.
اليوم وكما ورثت حكومة الشرعية شرعية الصندوق وشرعية التوافق ومصائب بن علي وديونه وأجهزته الفاسدة ومنظومته المهترئة ونخبته (أبناؤه غير الشرعيين) فإنها كذلك ورثت هذا الارث الذي يشرفها فنحن نقدّم لها شرعية الأخلاق لأن ملحمة السجن وشم في ذاكرة الوطن.
هنا في القصبة ..سنتان بعد ثورة قيل إن شعبها انتفض ضدّ الظلم. والقهر والطغيان ..يمكنك أن تعيش «السيلون» و«البيّاص» و«الكرّاكة». مجدّدا في وجه كل جالس الى الأرض وفي كل نظرة من نظراته ..وفي تقاسيم وجهه التي لا تتغيّر بمفعول البرد القارس ...فأجسادهم تعودّت على الصمود ما عادت تربكها تقلبّات الطقس.