أكدت استطلاعات الرأي الأخيرة أن نداء تونس أصبح لأول مرة في صدارة ترتيب نوايا الانتخاب، وذلك على الرغم من أن هذا الحزب لم يبعث الى الوجود الا منذ سنة تقريبا. والغريب ان هذا الصعود الصاروخي للنداء لا يدهش، رغم انه يدعو المختصين الى التفكير مليا في حزب ظاهرة، لعل انطلاقا منه يقع استخلاص عدة دروس تهم أكثر من ميدان كالرأي العام التونسي، وتغيّراته وكدور الكاريزما الشخصية في العمل الوطني وكالمهجة التونسية العامة وطرق إثارتها ثم إعادة تركيبها من جديد.
فالقول بأن فشل إدارة شؤون البلاد بعد 23 أكتوبر هو الذي يقبع وراء زحف حزب نداء تونس لا يشرح كله هذه الظاهرة بما انه توجد احزاب أخرى كان المنطق يجعلها هي التي تستفيد من ذلك الفشل. ولئن كان الفشل هو الذي يشرح السقوط الكبير للأحزاب المعنية الا انه لا يبرر ان يكون في رصيده الايجابي خاصا بنداء تونس.
والقول بأن ضررا كبيرا لحق بحركة النهضة جرّاء إحساس عام بأنها تسعى الى إقامة نظام إسلامي هو أقرب الى التنظيرات السلفية وهو ما تعود مسؤوليته بدرجة أولى الى حركة النهضة ذاتها التي لوّح قياديون فيها باعتماد الشريعة في الدستور وحلّت في عهدها طوابير من الدعاة الغريبين مروّجين لفتاوى تنفّر، ولفكر يدعو الى الغضب والاستهزاء معا لكنه يعيد الناس الى هويتهم التونسية الخالصة، ويحيي فيهم اعتزازا بما تراكم في تاريخهم منذ القرن 19 من مكاسب.
القول بهذا الضرر لا يشرح لوحده ظاهرة تنامي حزب نداء تونس، بما أنه اي الضرر تستفيد منه أيضا عدة أطراف أخرى هي أشدّ عداء للظواهر الاسلامية، وأكثر نفورا منها.
والقول أيضا بأن الضرر الذي لحق النهضة والأحزاب التي تواليها يجد شرحه في العلاقة التي أصبحت منطبعة في الأذهان بين العنف السياسي وهذه الأطراف التي هي على علاقة مباشرة بأكثر من حدث عنف وأكثر من حادث منع لتظاهرات حزبية، يظل قولا تنطبق عليه خلاصات القولين السابقين.
إن توتير المناخ الوطني بالخطاب التصعيدي وبالعنف الواضح او المستتر الموجه الى النخب لا يجد قبولا لدى الرأي العام وإن كان يجد مباركة من منخرطي أحزاب الائتلاف ومن بعض الشرائح القليلة التي يثيرها الخطاب التصعيدي فترى في العنف أمرا محمودا الا أن عدم ايجاد القبول لا يعني بالضرورة ان نداء تونس هو المستفيد الوحيد من عدم القبول.
ولو عدنا في هذه الورقة الى الأسباب التي تقف وراء تهرئة الائتلاف المؤقت الحاكم لتجاوزت بكثير الاسباب الثلاثة الأخيرة ولكن الغاية هي محاولة فهم ريادة حزب نداء تونس في زمن قياسي، وهو ما يعود الى تفاعل واضح بين كيمياء المهجة التونسية المستترة والكاريزما الشخصية لزعيم النداء الباجي قائد السبسي. فهذا الرجل إضافة الى ما توفّر في صورته من أسباب غير معلومة لدارسي المسألة الكاريزمية حتى أن بعضهم أعادها للقضاء والقدر نفسه فهو قد استطاع ان يكون في هذه الظروف ووسط كل هذه الشخصيات عنوانا للهوية التونسية المتفردة التي كلما هاجمها خصومها، ورماها منافسوها الا ووجدت تعاطفا متزايدا فيما القصد من الهجوم عليها هو اظهارها كعنوان لثورة مضادة، وهو مصطلح نخبوي لا تفهمه أغلب الشرائح الشعبية وقد زادت الاتهامات في لفت الانتباه لهذا الشخص والتركيز عليه وهو ما ينتهي غالبا بمقارنة صورة الشخص المعني بصور من يهاجمونها. وفي هذا المجال بالذات مالت الكفّة لصالح باعث نداء تونس.
وقد استنجد الباجي قائد السبسي في معاركه بدهاء كبير، فكان يختار لحظة الهجوم والردّ على خصومه، بنفس الدقة التي يختار بها لحظة الجنوح الى السلم معهم ودعوتهم الى الحوار والتعايش مما أظهره في صورة الشخصية التي تتعالى عن الأمور الشخصية عندما تقتضي الضرورة الوطنية. كل هذا بالاضافة الى ان محاولة الربط بين الباجي قائد السبسي وبين النظام السابق باءت بالفشل والأغرب ان خلاصة هذا الربط انتهت الى أنه يمثل ما يتراءى الى الناس من جوانب ايجابية في العهدين السابقين معا خصوصا ان الباجي نجح في المزج بينه وبين العهد البورقيبي وهو ما أعانه عليه خصومه كل العون.
ولم ينتبه خصوم الرجل ايضا الى أن الشعوب تمكر ايضا وتبيع الأوهام وأنها أمام مصالحها المادية سريعة التغيّر والتبدّل، وأن مطلبها في الأخير هو الرخاء والأمن وأن لحظات التشنّج، القصوى التي تمرّ بها سيعقبها هدوء وتأمل، وأنها بين المرحلتين ستنضوي دفاعا وتحصّنا وراء هويتها. وفي الحالة التونسية فإن تلك الهوية في مثل تلك المراحل لا تكون الا تونسية صرفة، فيما فشلت على حدّ السواء عملية استجلاب الهوية التركية في مرحلة أولى ثم عملية استجلاب هوية عربية اسلامية رآها التونسيون مجرد ثقافة خليجية بائسة مرتين: بائسة أولا لأنها خليجية والتونسيون لم يتربوا على الانبهار بالخليج بل العكس هو الصحيح. بائسة ثانيا لأنها دينية مع تديّن مشكوك فيه وأزمة اقتصادية وهراء سياسي، وفوضى اجتماعية وأمنية.
وكل هذا أثار المهجة التونسية الخالصة والشخصية التونسية العميقة (وليس الدولة العميقة كما يقول فهمي هويدي شارحا الحالة المصرية وكما يردّد على لسانه بعض مريديه في تونس).
فراحت تبحث عن خطاب يتجاوز ما يقدّم لها حيث تجد ما يعيدها في ظنها الى تونس كما تتمناها لا كما هو حالها اليوم. لاشك ايضا ان هناك اسبابا أخرى لتنامي ظاهرة حزب نداء تونس رغم الحملات القوية والهجومات الكاسحة فالثابت ان هذا الحزب يجد هوى كبيرا في نفوس آلاف مؤلفة من الدستوريين والتجمعيين الذين يمتلكون خبرات متراكمة في الاصلاح والإفساد معا، وفي تعبئة الناس، وفي العمل الميداني، وفي اختراق حالة العزلة التي ضربت عليهم في الظاهر فقط.
فيما ظلّت الاحزاب المنافسة تلفّ وتدور حول شعارات برّاقة لكنه لا سبيل إليها لا اليوم ولا غدا. فالتطرف بضاعة كاسدة خصوصا اذا لم يجد بيئة تسنده او هوى يلقفه. والشعارات تفقد بريقها ويخفت مضمونها، خصوصا إذا كانت السياسات تقود الى عكس ما تدعو اليه والخطاب المزدوج يفقد مروّجه كل مصداقية. أما لبوس «الضحية» فأصبح عبارة عن خروج الى الناس في حفلة «تعرّ».