حتّى ذلك التعريف الذي وضعه عالم الاجتماع والسياسة «ماكس فيبر» حول الشرعية، أصبح متجاوزا بمنطق الزمن والتغيّرات. والشرعية في تعريفها ليست صنما يعبد، أو هيكلا مقدسا لا يأتيه الباطل من الأمام أو الخلف، ومن تحت أو فوق، إنها مفهوم يتمطّط حسب الظروف، وحسب الأهداف. وإذا كان المنطق يقول بأنه لا شرعية فوق شرعية القانون وما يفرزه، فإن العالم الذي أنتج الديمقراطية وطبّقها، وفاخر بها وروّجها خصوصا بعد أن انتهى التاريخ كما قيل في أوائل التسعينات لم يقبل بنتائج شرعية القانون والانتخابات، ليس أدلّ على ذلك بما حصل في النمسا مع السيد «يرغن هايدر» وحزبه القومي الشعبوي الذي كان يطلق عليه اسم الحزب النمساوي للحرية، حين رفض الاتحاد الأوروبي التعامل معه إذا ما هو صعد للحكومة وذلك بعد حصوله سنة 1999 على 26.9٪ من أصوات الناخبين، بل اعتبر الأوروبيون صعود ذلك الوجه خزيا وعارا لأوروبا التي لا يمكن أن تقبل بوجود حزب يميني متطرّف في الحكم. ومن المآخذ التي كانت توجّه الى الوجه، هي علاقته غير المعلنة والمواربة مع تنظيمات هي عبارة عن ميليشيات تدعو الى ثورة ضد تاريخ أوروبا، وتريد أن تبث ثقافة للإقصاء، وتسعى الى تركيز خطاب لا تقبل به أوروبا. وانصاعت النمسا كلها ولم ينصع «يرغن» وحزبه لوحدهما. وعادت الشرعية الى ما لا يناقض ما تعتبره أوروبا حرية، وتمّ تجاوز نتائج الانتخابات وكأنها لم تكن، وألغيت ما أفرزته الصناديق غير مأسوف عليها.
إن هذه الحادثة تعني الكثير، وتنسّب الأشياء، فهي حرمت حزبا من ممارسة السلطة حتى قبل أن يضطلع بمهام الحكم، وبسبب هذا الرفض لم يحصل الحزب المذكور في الانتخابات التالية على أكثر من 4.2٪ فقط من الأصوات لأنه تمّ توجيه الناخبين صوب دائرة معيّنة للاختيار فلا مجال في الفضاء الأوروبي لا للغلوّ ولا للإنفلات، حتى إن زكتهما الصناديق، ورشحتهما أصوات الناخبين.
إن أوروبا ثقافة، وفضاء، ومصالح، ومن لا يفهم هذا الثالوث، لا يمكن أن يوفّق في ممارسة السياسة، وهي ثقافة تريد أن تشعّ على ما حولها، وتريد أن ترى في الفضاءات التي حولها ما يشعّ عليها، فتقبل به ذائقتها وتتقبله مصالحها، ولها في هذا المضمار أساليب ناعمة كثيرة، وقوة حريرية لكنها ضاغطة كل الضغط إذا ما دعت الحاجة الى ذلك.
وليس خافيا أن لا أحد يزكّيه الناس ليفعل بعدها ما يشاء، خصوصا عندما تتحوّل الشرعية الى وسيلة وليس أداة، وعندما تتجاوز المهجة العامة لترسو لدى إدارة معيّنة تعكس طرفا أو فصيلا أو جماعة، ولا تنتبه أيضا الى الأرقام والنسب الحقيقية للانتخابات وكيفية توزيعها بين الشرائح والطبقات وفهمها كما هي، خصوصا في المراحل الانتقالية التي لا تنجح الا بالتهدئة ثم التوافق ثم الاتفاق. لذلك فإن المزج بين الشرعيات في مثل هذه المراحل يبقى ضرورة، أي المزج بين الشرعية القانونية، والشرعية التوافقية، معا، ويمكن أيضا ابتكار شرعية وطنية تدرأ من خلالها المخاطر، وتكفّ التوترات، ولا تحتد المواجهات.
أما ركوب الرأس، والرّهان على العنف (وأشكاله متعددة) والتمسّك بالاقصاء. فكلّها لن تجدي نفعا، وإن كانت بعض العقول والنفوس تتصوّر أن لها من الذكاء ما يجعل الحيل تنطلي على الداخل والخارج معا. أو أن لها من القوة ما يخيف الغير ويجبره على التسليم، أو أن لها من الشحنات العاطفية ما يهدّد الذات والآخرين معا بالدمار الشامل، فهذا أوّلا لا يليق ثم إنه غير ممكن. إن المخرج الوحيد هو استعمال العقل، والانخراط التاريخي في حوار وطني شامل مع جدول أعمال جديد، خال من التوترات الثورية خصوصا الكاذبة منها.