انطلقت المستشارة في مداخلتها اعتمادا على سند نظري يؤرّخ لفترة ما بعد الثورة الفرنسية، مشيرة إلى أنّ التغيّرات الجذرية التي شهدتها فرنسا تمثل احدى الركائز التأسيسية لأيّ بلد في طور الانتقال الديمقراطي. وأوضحت أنّ الموضوع يحمل في تفاصيله تعقيدا في مستواه الإجرائي، لأنّ الفرق بين النصّ القانوني وبين سبل تطبيقه شاسع. وقد حصل في العديد من المناسبات اتّهام وزراء، ولكن من النادر معاقبتهم. وأضافت أنّ هذه النقطة كانت وما تزال موضوع نقاش في الأوساط الفرنسية. وقالت «دي غرونج» إنّ فرنسا بحثت عن سبل قانونية لوضع حدّ للتجاوزات والإخلالات التي يرتكبها الوزراء أثناء أدائهم لمهامهم، وهذا يعتبر إحدى ثمار الثورة الفرنسية. فإقرار المسؤولية الجزائية للمسؤولين السياسيين تعود إلى عام 1805 وهي الفترة التي تلت مباشرة الثورة وميلاد الجمهورية الخامسة. الظرفية التاريخية التي أفرزت هذا القانون شبيهة بما تعيشه تونس حاليا من مخاض عسير للديمقراطية، فالمتعارف عليه –بحسب «دي غرونج» دائما- أنّ الثورات هي نقاط ارتكاز عنيفة في تاريخ الدول، وغالبا ما يعقبها إما رخاء سياسي ديمقراطي أو استقطاب ثنائي تعسّفي عنيف كفيل بزلزلة التجربة بأكملها.
وفي خضمّ حديثها، قالت عضو المحكمة الفرنسية للعدالة إنّ أغلب الاتهامات الموجّهة للوزراء تتعلّق بتحويل وجهة أموال عمومية والفساد والرّشوة، و أنّ التصدّي لهذه الاخلالات مثّل هدف السلطات الفرنسية على الدوام من خلال استحداث «المحكمة الفرنسية للعدالة» وهو هيكل إداري يعنى بالنظر في تجاوزات الوزراء أثناء المباشرة وليس بعد إعفائهم من مهامهم. تمّ انشاء هذه المحكمة بمقتضى قانون دستوري تعديلي بتاريخ 27 جويلية 1993 اثر انفجار فضيحة الدم الملوث وتنامي فساد كوادر الدولة في نهاية الولاية الثانية للرئيس الفرنسي الأسبق «فرنسوا ميتيران». قبل ذلك، كانت مساءلة رئيس الجمهورية في حالة حصول الخيانة العظمى وأعضاء حكومته من مشمولات المحكمة العليا للعدالة. وتتكوّن المحكمة الفرنسية للعدالة من خمسة عشر قاضيا، اثنا عشر منهم هم نوّاب يتمّ انتخابهم مناصفة بين المجلس الوطني الفرنسي والغرفة العليا للبرلمان الفرنسي (أي أنّ كلّ هيئة تقوم بانتخاب ستّة نواب- قضاة)، يضاف إليهم ثلاثة قضاة اخرين من مقرّ محكمة التعقيب، واحد منهم يضطلع برئاسة المحكمة.
وأشارت «دي غرونج» إلى توفّر الصبغة الجزائية والسياسية في الجرائم التي يرتكبها الوزراء. فمن الناحية القانونية، يتمّ النظر في القضايا المرفوعة وفقا للصيغ القانونية المعمول بها. فان كانت الجريمة المرتكبة تنضوي في إطار جرائم الحقّ العام كأن يقوم الوزير بقتل زوجته على سبيل المثال، فإنّه تقع محاكمة الوزير كأي مواطن عادي وينال جزاءه. المشكل يكمن حين يرتكب الوزير جريمة لها علاقة مباشرة بصفته كأن يختلس أويستغلّ منصبه لخدمة أغراضه الشخصية أو العائلية والإرتشاء و الفساد أو حين يتعلّق الأمر بمسؤوليته السياسية تجاه حوادث تسبّب فيها بطرق مباشرة أو غير مباشرة عبر قرارات خاطئة كلفت خسائر بشرية أو مادية فادحة. وفي سياق حديثها، أوردت المستشارة مثالا لرهائن في مدرسة ابتدائية (وهو مثال حقيقي)، حيث قالت إنّ هؤلاء الأشخاص الذين تتخذهم إحدى العصابات رهائن قد يتعرّضون للقتل بسبب قرار متسرّع أو تقدير خاطئ أو تهاون، فماذا سيكون موقف المسؤول الأول عن ذلك من الناحية القانونية؟ وأوضحت «دي غرونج» أنّ المسؤول هنا ليس المفتّش أو الضابط بل رئيس سلطة الاشراف أي وزير الداخلية. في هذه الحالة، يتمّ توجيه تهمة القتل لهذا الوزير ويحال على أنظار المحكمة الفرنسية للعدالة لمحاكمته عن مسؤوليته السياسية عن الحادث. وبالتّزامن مع ذلك، يتمّ عزله سياسيا عبر حرمانه من الترشّح وإجباره على الاستقالة.
إشارة «دي غرونج» تحيلنا إلى موضوع «الشيراتون غايت» الذي أظهر وجود شبهة فساد مالي. السؤال هنا هو كيف سيتمّ البتّ في هذه القضية إن افترضنا توجيه اتّهام رسمي للوزير؟ هل سيحاكم الوزير والحال أنّنا لا نمتلك سندا قانونيا يخوّل محاكمة وزير مباشر، أم ننتظر إلى حين حلول معجزة تنهي مهامه فنقاضيه تماما كما حدث في النظام البورقيبي وبن علي؟ الموضوع معقّد كما قالت «دي غرونج» لأنّ تتبّع قضية مماثلة معرّض للإصطدام بالحصانات السياسية والنيابية التي تسقط اليا كل التتبعات التي تستهدف الشخصيات السياسية والدبلوماسية، وهذا تقريبا ما حصل في تلك القضية التي انتهت إلى سلّة المهملات على الرغم من الضجة الاعلامية الكبرى التي رافقت ظهورها. التعقيب ذاته يسري على قضية اغتيال المناضل شكري بلعيد الذي يعتبر موته نتيجة لتواطؤ السلطة مع دعاة العنف والمحرّضين على تصفية الخصوم السياسيين، وهو افراز بديهي للتساهل في التعامل مع قتلة لطفي نقض في تطاوين والاعتداءات المختلفة لما يسمى بروابط حماية الثورة.
وأضافت المستشارة الفرنسية في إطار حديثها عن النقاط الفاصلة في تاريخ نشأة وتطور الهياكل المعنية بمحاكمة الوزراء، أنّه في العام 1991 هزّت فرنسا فضيحة سياسية مدوّية على اثر اكتشاف وجود كمّيات كبيرة من الدم الملوث بفيروس «الأيدز» والإلتهاب الكبدي تمّ بيعها لكثير من الدول العربية على وجه الخصوص، بالتوازي مع ترويج كميات أخرى للداخل الفرنسي تسببت في وفاة ما لا يقلّ عن 4000 مريض فرنسي. وقد تمّت تلك العمليات على مراحل من سنة 1983 إلى سنة 1985. تمّ توجيه الإتّهام إلى رئيس حكومة «ميتيران» انذاك «لوران فابيوس» وبعض الكوادر في وزارة الصحة العمومية الفرنسية، والذين تمّت ادانتهم في وقت لاحق في حين تمت تبرئة «فابيوس». كما استحضرت المستشارة حادثة مقتل الصحفي «فرناندو بيرير» الذي كان على متن سفينة تمّ تفجيرها عبر تلغيمها في البحر بتاريخ 10 جويلية 1985. الحادثة دفعت بوزير الدفاع انذاك «شارل هيرتو» لتقديم استقالته.