«منية العقيلي 15 عاما و8 أشهر وفيصل النفزي 17 عاما.. هكذا كانت أعمارهما ساعة اعتقالهما بتهمة «الانتماء».. منية وفيصل أصغر سجينين سياسيين في تونس.. من ضمن مجموعة الشباب التلمذي في التسعينات..». يدخل «اعتصام الصمود» للمساجين السياسيين شهره الثاني في تجاهل يكاد يكون مقصودا من حكومة ما فتئت تتحدث عن المرسوم عدد 1 لتفعيل العفو العام وهو المرسوم الذي صادق عليه «فؤاد المبزع» رئيس الجمهورية المؤقت وحكومة السبسي الثانية. دون خارطة طريق واضحة.. دمّرت حياة الكثيرين.. وفقد آخرون نعمة الصحة كما نعمة الحرية.. ورغم ذلك ما يزالون يعانون نفس التفاصيل.. حقوق مدينة مفقودة وتاريخ يأبى كثيرون تصفّح أوراقه.. تغيّرت الحكومات وستتغيّر والمساجين السياسيين ما يزالون في نفس المكان بحثا عن حق مسلوب وعن صوت لينصفهم. هنا في «اعتصام الصمود» كل القصص تروى بعنوان واحد «قصة جراح وطن» ليست العبرة بأن تبقى الحكايات رهينة الأسطر بل الأهم أن لا يعيد التاريخ نفسه.. ما عادت الأجساد تحتمل وزر الماضي.. ما عاد الوطن بحاجة الى دهليز أظلم وسراديب لإخماد الأصوات و«كرّاكة» للتشفّي.
الكل متهم
فيصل النفزي.. أصغر سجين سياسي عرفته تونس ومنية عقيلي أصغر سجينة سياسية.. الأول تمّ اعتقاله وعمره 17 عاما والثانية كانت في سن 15 عاما و8 أشهر.. الاثنان يشكلان نقطة أن نظام بن علي لم يفرّق بين الأعمار.. فالتهمة قد تطال من الأطفال بالوراثة.. فالكل مذنب والكل مجرم والكل مشبوه.. فيصل ومنية يعيدان التاريخ الى أوائل التسعينات حيث كانت الحملة العشواء لاجتثاث الحركة الاسلامية من نقطة شبابها المدرسي، فكان عماد والهادي ومنية وفيصل.. أسماء من آلاف الأسماء الأخرى التي اعتقلت وحوكمت وسجنت وسنّها لم يبلغ بعد 17 ربيعا.
أصغر سجينة سياسية
اللقاء مع منية لم يكن الأول باعتبار أننا التقينا ذات صباح من سنة 94 في مركز الهداية بمنوبة أي قبل تسعة عشر عاما. تعتبر منية العقيلي أصغر سجينة سياسية في تونس بعمر 15 ربيعا تحدثت إلينا اليوم منية الأم مسترجعة تفاصيل الماضي الذي حرمها من مواصلة تعليمها بالقول «كنت طفلة وتلميذة بالسنة الأولى ثانوي حين اعتقلوني ونزعوا عنّي الحجاب وحاكموني بالسجن مدة عامين و5 أعوام مراقبة إدارية.. والتهمة «انتماء».. انقطعت عن الدراسة منذ أخذوني من بيت عائلتي بالكبارية وحين غادرت أسوار مركز «الهداية» بمنوبة، استقبلتني سنوات المراقبة والذهاب يوميا ولمدة 5 أعوام الى عدد من المراكز الأمنية بلغ عددها التسعة للإمضاء على الحضور.. ليس مهما أن يكون يومك مشمسا أو ممطرا.. إن كنت مصابا بزكام أو مرهق المهم هو الامضاء على الحضور.
يمرّ يومي كما مرّ 1825 يوما في الذهاب الى مراكز الشرطة ثم أعود بنفس المسلك للإمضاء فكان صعبا عليّ أن أعود الى الدراسة بل لنقل مستحيلا.. فلتتخلّص من التتبّعات عليك أن تمضي حتى اليوم الذي أصبت فيه بحالة استعجالية استوجبت عملية جراحية ودخلت المستشفى لم يتركوني وجاؤوا لزيارتي لأتمم عملية الامضاء.. ما كنت أعلم أن طفولتي تخيفهم... بقيت منية العقيلي رغم السنون تحمل نفس ملامح الطفلة التي التقيتها ذات فصل في عيون أطفالها المحيطين بها يقبلّنا بين الحين والآخر. لم تذكر منية الكثير من التفاصيل بقدر ما تذكّرها «منير الحكيري» من مجموعة الشباب المدرسي.. يتذكّرها بدقة منير ابن الملاسين الذي اعتقلوه وهو تلميذ سنة 92 وحاكموه بتهمة «الانتماء» 14 عاما سجنا.. يتحدث منير اليوم مبتسما «منية لم تكن موقوفة عادية.. كنا مجموعة كبرى.. كلنا من الشباب المدرسي.. كانت ترتعد فصائلنا من جلادينا.. وخاصة «الهادي التوكابري» هذا الطاغوت الذي كان يتزين بأبهى حلّة من أقمصة وربطات عنق، لم يكن هو من يمارس التعذيب المباشر هو فقط كان يتحدث الينا قبل أن يعطي تعليماته بنظرات من عينيه الثاقبتين ليمارسوا علينا أشد أنواع التعذيب.
يومها لست أنسى كيف دخل علينا ونحن نرتعد بردا وخوفا من صوته.. إلا «منية».. كانت أكثرنا جرأة وأصغرنا سنا توجهت اليه مباشرة وقالت له «أنت عدوّ ا& لماذا تعتقلوننا؟»، يوما لست أنسى كيف توقفنا عن التنفس فقد تخيلناها شهيدة بعد لحظات.. وارتعبنا ونحن جميعا صغار السن...لكن الطاغوت لم يتكلم.. لم يتحرك من مكانه أصلا.. توقف للحظات ثم غادر المكان. حملات التسعينات لم تشمل قيادات الحركة فحسب بل شملت حتى شبابها التلمذي في عمليات ومحاولات اجتثاث غير مسبوقة تاريخيا.. مرّت السنون وغادرنا أقبية الداخلية ونحن نشاهد أغلب جلادينا مصابون بالجلطات والشلل.
انتماء «ورغم ذلك درست.. فالضحية أبقى من جلاّديه» هكذا استهل فيصل النفزي أصغر سجين سياسي في تونس كلامه.. تم اعتقاله وعمره 17 ربيعا والآن يبلغ من العمر 37 عاما.. عشرون عاما قضاها يعانق وزر تهمته «الانتماء» وجريمة «الانتماء» في قاموس القانون السابق لما قبل 14 جانفي هو «الانتماء لجمعية غير مرخّص فيها». ورغم الحصار تمكن فيصل من اتمام داسته في عشرين عاما.. يقول فيصل في مجمل حديثه «كنت طفلا بمفهوم الطفولة الكامل.. حين داهم البوليس السرّي بيتنا.. جريمتي أنني كنت ضمن الشباب المدرسي المنتمي لحركة «الاتجاه الاسلامي» وكنت يومها تلميذا بالسنة الرابعة ثانوي (نظام قديم). اعتقلوني في صمت ورغم صغر سني وضعوني في مركز اصلاح مغلق وهو اصلاحية (فوشانة المغيرة) متبوعا بسنوات المراقبة الادارية. لم يشفع لي سني في أن أحاكم محاكمة عادية.. عاقبوني بسبب الانتماء بعامين سجنا وانقطعت عن التعليم.
واصلت دراستي
«حين غادرت جدران الايقاف، أضربت على مواصلة دراستي فقد كان تحدّيا مني تلقفتني المدارس الخاصة.. قضيت عدة سنوات في سنة الباكالوريا وكان رفاقي الباقون في السجون لسنوات يتابعون رسوبي ويقولون أن نجاحي سيكون هو حريتهم.. كنا نسخر من نظام يخاف أطفالا في عمر الزهور.. أتممت الباكالوريا ودرست خمسة أعوام القانون وأتممت مرحلتي الثالثة نعم.. في عشرين عاما ضعف المدة التي من المفروض أن أقضيها... ففي التسعينات لم يفرّق الطاغوت بين الاعمار كنا جميعا في نظره متهمون ولو بالغياب. «الشباب المدرسي» أو «البراعم» لحركة الاتجاه الاسلامي.. باستامة عيونهم ما تزال تحمل نفس بريقها.. في قصصهم.. ألف حكاية ورواية.. تقول فقط.. أن «الضحية أبقى من جلاديه.. في عيونهم رمزية الوفاء.. وصمود سنوات الجمر وأمل المستقبل في وطن يعيشون فيه أحرارا..