ربما لم يكن السيد علي العريض يتوقع قبوله التكليف بتشكيل الحكومة ان يجد نفسه في مثل هذه الوضعية المعقدة والصعبة التي فيها الكثير من ملامح الفشل الآني والمنتظر. انتهت الامور الى ما كان غير متوقع لدى الكثير من المتابعين وفئات المجتمع، ولم يتمكن رئيس الحكومة المكلف من تحقيق الاهداف المعلنة من تشكيل حكومة ائتلاف سياسي واسع مع تحييد لوزارات السيادة والتخفيض في عدد من الحقائب الوزارية ووضع برنامج عمل واضح ودقيق للمرحلة القادمة وما تبقى من عمر الفترة الانتقالية التي تسبق مرحلة الحكم الدائم والمستقر.
تعددت جلسات المشاورات وتعددت المواعيد ووجد السيد علي العريض نفسه في مربع الوقت الضائع واللحظات الاخيرة للاجال القانونية والدستورية. ومن المؤكد ان سيل الأسئلة سيتواصل حول اسباب هذا الإخفاق والتعطل الذي أصاب المشاورات مع انفتاح الباب امام السيناريوهات الممكنة في حال تم اليوم الاعلان عن تركيبة الحكومة الجديدة ام عن الفشل في الوصول الى وفاق نهائي خاصة بين أطراف الترويكا الثلاثة بعد انسحاب الثلاثي حركة وفاء والتحالف الديمقراطي وكتلة الحرية والكرامة يومين قبل انتهاء الآجال.
العديد من الملاحظين والمحللين توقعوا منذ البداية الصعوبة التي كان يتحرك فيها رئيس الحكومة المكلف خاصة بعد رفض حزبي الجمهوري والمسار المشاركة في المشاورات وإعلانهما التمسك بمبادرة حكومة التكنوقراط التي سبق ان اقترحها رئيس الحكومة المستقيل السيد حمادي الجبالي. جوهر الخلاف وسبب التعطيل واصبح من تحصيل الحاصل ان جوهر الخلاف كان حول المحاصصة واقتسام الحقائب الوزارية اكثر منه الخوض في استحقاقات المرحلة وبرنامج العمل الحكومي، وهي استحقاقات وبرنامج بدا واضحا وجليا لدى كل الفرقاء السياسيين اجماع عليها، ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
ضرورة تحييد وزارات السيادة. وضع خارطة طريق للمواعيد السياسية والانتخابية القادمة. التحرك العاجل لمعالجة ملف ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين. منطق المحاصصة والنزاع حول النصيب من الحقائب الوزارية أعاد الصورة الى ما كانت عليه الحال قبل مبادرة حكومة التكنوقراط عندما تمسك حزب المؤتمر بتحييد وزارة الخارجية او على الاقل تغيير وزيرها رفيق عبد السلام وتمسك التكتل بإزاحة وزير العدل نور الدين البحيري، بل ربما ان الأوضاع وحالة التفاوض كانت حينها افضل مما آلت اليه الأوضاع خلال اليومين الفارطين بانسحاب حركة وفاء وكتلة الحرية والكرامة والتحالف الديمقراطي وتهديد حزب التكتل بالانقطاع عن الائتلاف الحاكم والخروج من الحكومة.
ابتزاز وخضوع
العريض خضع الى سياسة الابتزاز من الشركاء في التفاوض وترك الباب مفتوحا امام المزيد من التنازلات رغم الورقة الذهبية التي منحته له حركته بقبولها مبدأ تحييد وزارات السيادة، وهو ما عزز مواقع التكتل على وجه الخصوص الذي مر من مطلب التحييد الى مراجعة التعيينات والتسميات في مختلف المواقع الادارية وحل رابطات حماية الثورة وقد يكون استبعاد خيار خلط الاوراق من جديد على مستوى الرئاسات الثلاث أوجد ضغطا متزايدا في وجه مساعي العريض، ذلك ان ذلك الاستبعاد وهو امر غير منطقي لدى عدة متابعين نتيجة الفشل الذي ميز اعمال المجلس الوطني التأسيسي ومؤسسة رئاسة الجمهورية قد جعل التفاوض ينحصر في التشكيلة الحكومية ودفع المتفاوضين خاصة من المؤتمر والتكتل الى الترفيع في سقف مطالبهم واشتراطاتهم.
إرث وتأثيرات متواصلة
وحتى في حال القدرة على تشكيل حكومة جديدة فإنها ستكون محكومة بإرث ثقيل من الحكومة السابقة تميز على وجه الخصوص ب: ضعف الأداء وبقاء العديد من الملفات مفتوحة بل انها ازدادت تعقيدا على غرار ملف رجال الاعمال والتشغيل والتنمية في الجهات وملف العدالة الانتقالية الذي لم تنجز فيه حكومة الجبالي الشيء الكثير.
الوضع الاقتصادي الصعب والناجم عن عدم تنشيط الاستثمار وارتفاع المديونية الخارجية والترقيات الدولية التي تضاعف إمكانيات جلب الاستثمارات الخارجية. بقاء مؤسستي العدل والداخلية في وضعية صعبة وغير مريحة بالمرة وتضاعف خطر الإرهاب وانتشار الاسلحة واستفحال التهريب والجريمة المنظمة. تواصل حالة الاحتقان السياسي وغياب أفق لتوافق وطني حقيقي حول الأجندة السياسية والانتخابية ومعالجة ظاهرة العنف والانفلاتات الأمنية والاجتماعية.
المستقبل والنيران الصديقة
ستتحرك حكومة العريض في حال تشكلها في محيط ملغوم وغير مريح مما سيعقد مهمتها المستقبلية وسيصعب عليها فض الملفات الحارقة ورسم ملامح جديدة للعمل الحكومي تتجاوز الملامح السابقة التي كان عليها زمن حكومة الجبالي حيث التردد والتداخل والضبابية والاتهام بالمحاباة والتعيين للاقرباء وعدم التعويل على الخبرات والكفاءات.
وقد عكست استقالة وزير الدفاع السيد عبد الكريم الزبيدي وانسحاب المستشار ابو يعرب المرزوقي وما ذكراه من مساوئ السلطة الحالية عمق الأزمة التي سيجد فيها العريض وحكومته المفترضة نفسيهما، فكيف السبيل الى معالجة ذلك الإرث الثقيل وعامل الوقت يحاصر الجميع والمدة الافتراضية للعمل قد لا تتجاوز بعض الأشهر. قد يكون امام حكومة العريض أولويات وطنية كبرى يبقى اهمها إزاحة الغموض في السياق السياسي والوصول بالبلاد الى انهاء هذه المرحلة الانتقالية وضمان انتخابات نزيهة تفضي الى مرحلة الحكم الدائم والمستقر، كما بإمكان هذه الحكومة اتخاذ قرارات جريئة في ما يتعلق بتحييد الادارة وإنهاء مأساة رجال الاعمال وفتح نافذة على درب العدالة الانتقالية المدخل الوحيد الممكن لتحقيق المصالحة الوطنية.
اعداد قسم الشؤون السياسية تمظهرات فشل المشاورات
عدم القدرة على توسيع الائتلاف الحاكم برغم ان ذلك كان هدفا استراتيجيا خاصة لحركة النهضة منذ مؤتمرها التاسع الذي انعقد خلال الصائفة الفارطة. عجز عن استقطاب اهم الفاعلين السياسيين داخل المجلس الوطني التأسيسي (حزبي الجمهوري والمسار) وسد الأبواب امام التشاور مع حزب نداء تونس. عدم القدرة على معالجة ملف تحييد فعلي للوزارات السيادية وخاصة وزارتي العدل والداخلية التي بقيت الاسماء المقترحة لتولي حقائبها محل جدل واسع وتجاذب خاصة بين النهضة والتكتل. إضاعة الكثير من الوقت، ويبدو ان أطرافا في المشاورات سعت الى تحقيق مثل ذلك التعطل بغاية إفشال العريض وفتح الطريق امام سيناريو اخر على الأرجح يتمثل في اعادة الجبالي والمضي قدما في مبادرة حكومة التكنوقراط التي جمعت تأييدا من ابرز شركاء الترويكا اي حزب التكتل ولفيف واسع من المعارضة والرأي العام.
سيناريوهات ثلاثة أمام العريض امام رئيس الحكومة المكلف علي العريض خيارات ثلاثة: 1 اعلان توافق داخل الترويكا حول النقاط الخلافية وتقديم التشكيلة الحكومية اليوم لرئيس الجمهورية، وهو السيناريو الأقرب منطقيا بعد انحصار الخلاف حول اسمي وزيري العدل والداخلية. 2 اعلان حكومة دون حزب التكتل، وان كان هذا الامر ممكنا بل قد تكون لوحت به بعض الأطراف ولم تستبعده مصادر مقربة من حركة النهضة فهو امر قد يضع التشكيلة الجديدة في مطب الضعف السياسي هذا الى جانب مدى قدرتها على الحصول على ثقة وتزكية المجلس الوطني التأسيسي فحسابيا قد يكون من الصعب بلوغ نسبة الأغلبية المطلقة اي 50 زائد 1. 3 فشل مسار تشكيل حكومة جديدة برئاسة السيد علي العريض، وهو امر يمنح رئيس الجمهورية الحق في التشاور مع الاحزاب والكتل البرلمانية وتعيين من يراه الأقدر على تشكيل حكومة جديدة دون الحاجة الى العودة الى الحزب الاغلبي مثلما ينص على ذلك الفصل 15 من القانون المؤقت لتنظيم السط العمومية.
الجبالي الخيار الممكن
تتحدث العديد من الأوساط على ان الشخصية الأقدر على ضمان توافق واسع بين الأطياف السياسية تبقى شخصية السيد حمادي الجبالي بمبادرته القديمة اي حكومة التكنوقراط، ويبدو من خلال العديد من المصادر الموثوقة ومثلما أشارت الى ذلك الشروق في عدد اول امس الأربعاء ان أطرافا في الترويكا قد سعت الى تعطيل مشاورات العريض وافشالها عبر الاشتراطات المتعددة والتعجيزية واضاعة الوقت لضمان تفويت الآجال القانونية وسحب البساط من تحت أقدام العريض في رئاسة الحكومة ومن تحت أقدام الجبالي في السباق الرئاسي المنتظر.
لم يكن احد يتوقع ان يحوز حمادي الجبالي رئيس الحكومة المستقيل على كل تلك الهالة والبهرج السياسي والإعلامي، والواضح ان الرجل ولاحقا حزبه قد تمكنا من استغلال جاذبية الاجماع حول حكومة التكنوقراط والكفاءات حتى من قبل الد الخصوم والمناوئين ووهج استقالة رئيس الحكومة لدى قطاعات واسعة من الرأي العام المحلي والدولي ليتحول الجبالي المستقيل الى رجل دولة من الطراز الرفيع وينطلق بحظوظ كبيرة للسابق الرئاسي المقبل، وهو الامر الذي حرك سواكن شريكي الحكم من اجل الدفع نحو إحباط مشاورات العريض ولاحقا اعادة الجبالي لإلهائه مرة اخرى بمشاغل الحكم وحجب حظوظه في الرئاسية بعد ان اعلن البعض من قيادات حركة النهضة توجههم لجعله مرشحهم لقصر قرطاج.
وقد تكون أطراف اخرى من المعارضة قد تقاطع انسحابها من مشاورات الحكومة الجديدة مع نوايا بن جعفر والمرزوقي في ابعاد الجبالي عن السباق الرئاسي، ليكون التمسك بالجبالي براغماتيا ومصلحيا ضيقا مندرجا في سياق التجاذب الانتخابي لا البحث عن المصلحة الوطنية.
فاي حظوظ للعريض؟ وهل يتمكن مهندسو التكنوقراط والطامحين للرئاسة في دفع الجبالي الى مرحلة الاحتراق السياسي ونزع ما حصل عليه من إشعاع وتقدير واسع؟.