1 هذا يوم آخر من شهر آخر ومن سنة أخرى.. لكن الوقت لم يبرح مكانه والزمن تخلى عن حظه التصاعدي فإذا بالتاريخ يعيد نفسه ويجتر بيأس المهازل نفسها. وحده عمري المثقل بالطعنات ينحني لفرحة طفل وهو يحبو انتصاراته الاولى، يتعثّر... ينتصب... يمشي ويحث الخطى نحو الأحلام. يركض... يركض.. يركض... لكنني مازلت ذاك الطفل الكهل والمسن من صدره مفتوح للجرح والورد وذاكرته محشوّة بشقاوة السنين الرافضة للموت الذي يسحب النعش خلف النعش حتى لا تتهاوى وجوه الذين أحب وتتسع مساحة التصحر اكثر ثم اكثر. اركض... اركض... اركض فتلاحقني رغبة الرجوع الى طفولتي لأحمي وجهي من صقيع المألوف وتوسد الحنين للحرف الاول صوت المؤدب وهو يغازل اللغة، ونبرة جدّتي التي وهبتني سحر الخرافة ونهر الخيال حتى غص حلقي بالكلمات... وهكذا تحوّلت من دفء الطمأنينة الى قلق العاصفة. فالكتابة وجع سري والشعر احتراق.. عمق اللحظة المختلفة، اللحظة الفالتة من قبضة الزيف اليومي.. 2 اكتملت القصيدة واستوت المدافن نحن الاطفال الكبار ماضون في انتهاك ستر المجهول واقتراف جريمة الشعر الكبرى والتنزّه في الضحك الذي ما انفك يذيب رغبة الانتحار ويسحب البساط من تحت المتآمرين على الكلمات. فكل الصفحات المحبّرة بالنشاز ضرب من ضروب التلوّث البيئي يجرحها ساحل الضوء... اصوات عششت في ركام الدسيسة قتقيأتها الارواح الفيصل بين سياط الخنق ولغة الخلق اكتملت القصيدة واستوت المدافن. 3 لماذا اكتب؟ ربما لأن الادمان اخذ مني كل مأخذ او ربما ما يحصل في دهاليز الروح يطفو على اللسان المحبر كلما اعتلتني الغصص ليتحول الى ابجدية تكشف ذاتي الملتحمة مع ذات الآخر المطلقة. لماذا اكتب؟ لا ادري من اي باب دخلتني العاصفة ولا ادري كيف تورّطت في شهوة الكتابة ولا ادري ماذا وكيف ولماذا اكتب وانا المحاصر بالأمكنة.. محاصر بدوّامة الأزمنة... محاصر بإرث الأجداد ونخل الجنوب... محاصر بالشرق والغرب محاصر بالذاكرة محاصر بالنسيان محاصر بالموت البطيء وبالموت السريع وبكل الوان الدهشة الآثمنة. لماذا اكتب؟ وهل في الكتابة اغتيال لطفولتي ام انتصار لها هل في الكتابة ستر ومدارات أم فضيحة الروح على قاعة المدى. لا ادري كل ما اعرفه ان اسئلتي البسيطة اشتدّ عودتها فاشتدت معها حيرتي لتلقي بي في غياهب المجهول ودوائر الاكتشاف والمغامرة والمسؤولية الموجة. ومع ذلك مازلت اكتب ومازلت مستمرا في اقتراف الكتابة فقط اصبحت ابحث لا عن اسباب الكتابة بل كيف اتحرر من الكتابة.