سنة 1969 أصدر جورج بيريك رواية بعنوان «الاختفاء» قام فيها ببناء حبْكة سرديّة شديدة الاحكام في نحو 300 صفحة دون استعمال حرف «e» على الرغم من أنّه أحد الحروف الأكثر حضورًا في اللغة الفرنسيّة. بعد ذلك التاريخ ب 44 سنة أي يوم 20 مارس 2013 وبمناسبة ذكرى عيد الاستقلال ألقى الرئيسُ المؤقّت خطابًا قام فيه ببناء حبْكة سرديّة شديدة الاحكام في بضع صفحات دون ذكر الزعيم الحبيب بورقيبة على الرغم من أنّه أحد الرموز الأكثر التصاقًا بموضوع الخطاب!! التحقَ جورج بيريك بالكتّاب والشعراء وعلماء الرياضيّات الذين كوّنوا سنة 1960 مجموعة «L›OuLiPo».. وهي بمثابة ورشة تجريبيّة لفتح الأدب على ممكنات جديدة انطلاقًا من الالتزام بقواعد يستنبطها الكاتب. ربّما غير بعيد عمّا ذهب اليه المعرّي قبْلَهم بِقُرُون في «لزوم ما لا يلزم». أمّا الدكتور المنصف المرزوقيّ فهو يجلسُ اليوم على كرسيّ الرئاسة. وهو من ثمَّ مُلْزَمٌ بما يَلْزَمُ «رئيسَ كُلّ التونسيّين والتونسيّات» مِنْ عَدْلٍ وانصاف وتحييدٍ للأهواء الشخصيّة في التعامُل مع الشعب بشَرًا وتاريخًا ورموزًا..
فما الذي ألجأه الى لزوم ما لا يَلزم، قريبًا من غوايةِ اعادة كتابة التاريخ على الهوى وعلى القياس؟!
التشفير وشجْبُ «الاعتباطيّة» مع احترام البُعْدِ اللَّعِبِيّ جزء من جوهر الكتابة لدى أعضاء «الأوليبو». من ثمّ لم يكن اِخفاءُ الحرف «e» محضَ لعِبٍ بالنسبة الى بيريك، فالرواية تُعالجُ قضايا شديدة الخطورة في تطابُقٍ تامٍّ بين الشكل والمضمون وبين التراجيديا الشخصيّة والتراجيديا الجماعيّة. في السياق نفسهِ يمكن التأكيد على أنّ اخفاء ذكْر الزعيم بورقيبة من خطاب المرزوقي لم يكن «لَعِبًا» هو أيضًا ولا «اعتباطًا». كما يمكن الزعْمُ بأنّ للدكتور منصف المرزوقي أكثر من «علّة» لتعليل هذا «الاخفاء». هنا يكمن الفرق الكبير بين النصّين.. فليس من الممكن اخفاءُ رمزٍ وطنيّ وكأنّه حرفٌ من حروف المُعجم!
اختفاءُ حرف «e» من رواية جورج بيريك في تطابُقٍ تامّ بين الشكل والمضمون زادَ النصَّ نجاحًا ومصداقيّة. أمّا اخفاءُ اسم بورقيبة من خطاب المرزوقي فقد بدا نسْفًا للخطاب نفسِه ممّا اختزله في شكْلٍ خالٍ من كلّ مضمون!
قال المرزوقي علينا الابتعاد «عن كلّ أصناف العنف السياسيّ» الذي يمكن أن يهدّد «الوحدة الوطنية..». كلامٌ معسول كان من الجائز تصديقه لو لم يكن اخفاء اسم بورقيبة من هذا الخطاب تحديدًا صنْفًا من أصناف العنف السياسيّ و«نقيضةً» من نقائض الوحدة الوطنيّة! حذّرَ المرزوقي في خطابه من أن «نُعيد نفس الأخطاء التي لوثّت تاريخ الدولة الحديثة» داعيًا الى رأب الصدع بين التونسيّين الذين «تخاصموا في ما بينهم» بعد الاستعمار.. كلامٌ معسول كان من الجائز تصديقه! لكنّ اخفاءَ اسم بورقيبة من الخطاب سرعان ما أفقد هذا الكلام مصداقيّته وسرعان ما فضحَ استمرارَ «الخطيب» في انتاج «الخُصومة» نفسِها بين البورقيبيّة واليوسفيّة!
قام جورج بيريك في روايته باستخدام أكثر من 350 ألف حرف بينما لم يستخدم الدكتور المرزوقي في خطابه سوى المئات من الحروف.. وعلى الرغم من ذلك فانّ اخفاء الحرف «e» من رواية في 300 صفحة يبدو اليوم أسهل من اخفاء ذكر الزعيم بورقيبة من خطابٍ بثلاث صفحات!!
هكذا يكون رئيسُنا قد تفوّق على بيريك في التشفير والاخفاء! لكن يبدو أنّه التفوّق الوحيد الذي يستطيع ان يطمح اليه فالقرّاء والنقّاد ما انفكّوا يفكّكون رواية بيريك دون أن يشعروا بأنّهم اكتشفوا كلّ كنوزها..
أمّا خطابُ رئيسنا المؤقّت فانّك تفكّكه من جهة الثأر للأب أو من جهة الرغبة في قتل الأب وتفكّكهُ مرّةً واحدة او ألفَ مرّة فلا تجد غير الشيء نفسِه: محاولة طمسِ بورقيبة رغبةً في طمْسِ ارْثِه، وارثِه الحداثيّ تحديدًا!!
ليس بورقيبة فوق النقد. الاّ أنّ سلبيّات الرجل لا تُلغي ايجابيّاته ولا تنفي أنّه جزءٌ لا يتجزّأ من تاريخ تونس في الطريق الى الاستقلال والى الحداثة! من ثمّ ليس الاحتكاك بمثل هذا الطراز من الزعماء مأمون العواقب.. وغالبًا ما تتحوّل الرغبة في محوهم الى نوع من الثقب الأسود الذي يختفي فيه كلّ من يحاول اخفاءهم!!