في احد اصياف الثمانينات الظامئة اكتشفت محمود بلعيد صدفة في المكتبة العمومية بمدينة دوز التي كانت نافذتي الاساسية على القراءة. اكتشفت مجموعة «أصداء في المدينة» وشدّتني اليها البساطة... تلك البساطة التي تكشف اصالة النفس الانسانية ونبلها وكبرياءها، لا اتذكّر الآن تفاصيل المجموعة ولا وجوهها لكنني لا أنسى تلك القيلولات التي قرأت فيها قصص المجموعة مسلما العنان لخيالك الصبي الحالم بأن يتصوّر مدينة من خلال الكتابة... لخيال ذلك الصبي الحالم بأن يتصور مدينة من خلال الكتابة... بعد هذه المجموعة قرأت في المكتبة العمومية ايضا عندما تدقّ الطبول وكانت قراءاتي لمحمود بلعيد تندرج ضمن قراءاتي للأدب التونسي الذي اكتشفت اغلب اسمائه في عمر مبكر لم اتجاوز فيه الثالثة عشرة واعترف ان مجلتي «قصص» و»الفكر» كانتا نافذتي الاساسية لاكتشاف الادب التونسي. في خريف 1987 اكتشفت العاصمة وشغلتني العلوم الانسانية وخاصة علم الاجتماع والكتابة الشعرية عن القصة والأدب التونسي ورغم ترددي على بعض النوادي وخاصة نادي الشعر في اتحاد الكتّاب والنادي الثقافي علي بلهوان ونادي صلاح الدين ساسي ايام الآحاد الممطرة لم التق محمود بلعيد الذي كانت البساطة وأناقة الجملة وصرامتها أهم ما شدّني إليه. وكان لابدّ من انتظار حوالي خمس او ست سنوات لألتقي بمحمود بلعيد خارج العاصمة وتحديدا في ملتقى محمد البشروش في دار شعبان الفهري الذي كان مخصصا آنذاك لمحمود المسعدي... ايامها تحدثنا طويلا عن الادب وشدّتني اليه بساطته في الحياة التي لا تختلف عن بساطته في الكتابة كان معنا ابو القاسم محمد كرو ونور الدين الفلاح والمرحوم علي شلش من مصر ومليكة العاصمي من المغرب وكان هذا الملتقى هو اول ملتقى ادبي ترسلني اليه إدارة جريدة «الشروق». من يومها بدأت علاقتي بمحمود بلعيد الذي تبهرك بساطته وعفويته وقدرته العظيمة على الصمت ولا اعرف ما إذا كانت اصولي البدوية هي التي جعلتني احب الناس الذين لهم قدرة عظيمة على الصمت... فمحمود بلعيد كاتب صامت يجيد الاستماع الى الآخرين وهذه صفة لا تتوفر في الشعراء الذين يميلون الى الثرثرة وتمجيد الذات وقتل الآخر. ان محمود بلعيد استطاع في مجموعاته الخمس ان يبني مدينة من الكلمات لكن موهبته في القص تجعلك تشمّ روائح المدينة بأزقتها الضيّقة وايقاعها وسطوحها وترى الاعشاب الثابتة بين الجدران... ان محمود بلعيد استطاع ان يجعل للكلمة روحا وايقاعا وبالحروف يعيد بناء مدينته واذا كانت لكل كاتب مدينة فإن محمود بلعيد يسكن كل المدن، ومن خلال سفره واستنطاقه للذات الانسانية في لحظات تمردها وضعفها وانكسارها يقودك الى السفر في مجاهل الروح وملامسة الألم الذي يسكن في اعماقها. من حين لآخر يفاجئنا محمود بلعيد بزيارته القصيرة الى «المتروبول» مقهانا المفضل نحن يتامى المدينة منذ سنة تقريبا فيشدّنا اليه حسّه الانساني العالي ونبله فلم يحدث ان استمعت اليه يذكر احدا بسوء او يقدح في موهبة كاتب آخر واذا حدث ان ذكر على مسمعيه اسم كاتب او شخص لا يميل اليه يكتفي محمود بلعيد بالصمت... ذلك الصمت الذي خطف اهتمامي منذ سنوات. من أي يستمد محمود بلعيد هذا النبل وهذا الكبرياء الاخّاذ... هل هو ايمانه العميق بنبل الكتابة ام بشرف الطب او من ارستقراطية العائلة؟ لعلها كل هذه العناصر مجتمعة لكن الأكيد ان محمود بلعيد جمع بين شرف الطب ونبل الكتابة وحميمية الأدب. تونس جانفي 2004 ألقيت هذه الشهادة في تكريم محمود بلعيد في السليمانية مؤخرا