(1) يخطىء من يظنّ أن تلاميذ شعبة الآداب قادرون أو حتى مُرشّحون لأن يكونوا أدباء، ومقابل ذلك فإنّ تلاميذ شعبة العلوم هم الأبعدون عن الأدب. والواقع أنّ التاريخ الأدبي المعاصر حافل بعديد الأسماء الأدبية التي تكونت في رحم الشعب العلمية فقد طلع تشيخوف ويوسف إدريس وإبراهيم ناجي وأحمد زكي أبو شادي وعبد السلام العجيلي ومحمود بلعيد وخليل النعيمي من كلية الطب، وأرنستو ساباتو من الفيزياء، وعبد الرحمان منيف من الكيمياء ومن كلية العلوم القانونية طلع نزار قباني والقائمة الوطنية والعربية والعالمية أطول مما ذكرت بكثير. (2) لا يحتاج المرء إذا كان ذا استعداد للكتابة الأدبية إلى إجازة في الأداب ولا إلى دكتوراه في هذا الاختصاص قدر ما يحتاج إلى حساسية توجد أو لا توجد، بل إنّ الأدب بالذات لا يتطلب شهادات. قد تكون كلية الآداب هي الأغزر في تنمية النقد الأدبي ولكنّها قطعا ليست الضامن لتخريج الأدباء. (3) ستمرّ السنوات مسرعة ماذا ستختار في نهاية السنة الثالثة؟ مدرسة ترشيح المعلمين أم الآداب؟ أجاب الصبي وعيناه تلفان كمن يتسلّق قمّة جبل: لا هذه ولا تلك سأختار العلوم. هذا ما ورد في رواية «الأيام الحافية» ص126 للدكتور نصر بالحاج بالطيب وهي نصّ روائي مركّب تتسلّل فيه عناصر كثيرة من السيرة الذاتية على رأي الدكتور أحمد المختار الشتوي في مقدّمة «الأيام الحافية» فيكون بذلك الراوي هو الصبي الذي اختار العلوم هو الدكتور لاحقا. إنّ هذا الصبي سوف يشبه جدّه لأبيه وقد كان «جدّ هذا الصبي يداوي الكسور والجروح المتقرّحة يستعمل الأعشاب والضمائد والجبس» ويورد الدكتور نصر قصّة جدّه الطبيب (على رأي الشاعر الشعبي بلقاسم عبد اللطيف «طُبّة وما قريناش الطب» تقول القصّة (إنّ جدّ هذا الصبي قضى ثلاثة أشهر في علاج فارس من الحمارنة أصيب في غارة على إبل المرازيق تهتّك وركه ولم يبق من العظام إلا شظايا بقي في بيت سيدي الحاج ثلاثة أشهر يعالجه رغم أنه أغار معتديا لم يعد إلى دوّاره إلا عندما شفي تماما روى والدي وما أدراك أن الحمارنة لم يغيروا على المرازيق منذ تلك الأيام، بل تحالفوا معا ضدّ الهمامة و»ورغمة» ص127. (4) عند قراءة «الأيام الحافية» ومجموعته القصصية الجديدة «زعفران» يشعر القارىء ومن الغلاف إلى المتن، أنّه في ضيافة كاملة : الغلاف مزيّن بلوحة رسمها المؤلف بوعي تشكيليّ يتحاضن فيه الطبيب والرسام. وعبر الرسومات التي حفلت بها مجموعة «زعفران» يستضيف الكاتب قارئه منذ الغلاف ويدخل القارىء عالم كلّ قصّة بعد أن يتفرّج على لوحة هي مفتاح بيت القصّة، وللقصّة عنوان ولوحة ومضمونان ظاهر وخفيّ. يتحوّل القارىء، إلى متفرّج على كاتب لا يستطيع إلاّ أن يكون طبيبا أنيقا دقيقا رقيقا، متدفّقا بالحياة قلقا من الموت يصف حضوره في غرفة العمليات ويتوغّل في تفاصيل جراحية لا يقدر على وصفها بتلك الدقّة إلا من عاشر المرض وفهم الألم وأحبّ الحياة، وغامر عديد المرات حتى يتصالح مع ما لا بدّ منه : الموت. (5) أحسّ وأنا أقرأ أدب نصر بلحاج بالطيب بذلك الطبيب الأديب وهو يسعى إلى استئصال الأديب من الطبيب ويسعى في الوقت نفسه إلى زرع الطبيب في الأديب. إنّ نصر أصيل مدينة دوز، بوابة الصحراء الكبرى التي نراها حاضرة بقوّة وبخضرة استثنائية في أجواء القصص من خلال التشبيهات والإحالات والمثل الشعبي والتقاليد الرعويّة الأليفة وعادات الأهل وطبيعتهم البسيطة العميقة وأحلامهم الممتدّة وحيواناتهم الأليفة الصبورة حتى ليكاد القارىء يحسب نفسه، وهو في ضيافة هذه الشساعة وهذا الامتداد أنّه أمام أدب ينضج بهذه القسوة المنتجة لهذه الأعماق الإنسانية الموجودة على جبلّتها في الصحراء والمصدومة أبدا بالعاصمة حيث العلاقات الإنسانية منوّرة بأضواء المدينة التي تدعو الضيوف لأنّهم كُرماء، ومقابل ذلك لن تشبه أضواء المدينة نار خيمة الصحراء تستقدم الضيوف لأنّ صاحب الخيمة كريم. (6) كثير من الأطباء لاحمون فقط وقليل منهم لاحمون حالمون معا. وهذا لا نكتشفه إلاّ مع «نصر» في إبداعية التشكيلي عبر لوحاته ونصوصه الدرامية من خلال «الأيام الحافية» و»زعفران» حيث لا يحضر الطبّ مجرّدا من العواطف فالجرّاح ليس جزّارا كما ألف بعض الشعب هذا النعت، إنّه يشتغل على الجرح في اللحم الطريّ الحي الني الذي يستسلم إلى المشارط في غيبوبة. ولكن حين يطلّ الجرّاح على ما وراء هذا اللحم في الطب يستفيق الحُلم في الأدب. إنّ خيطا شفيفا يشبه الحبل السُريّ يشدّ الطبيب إلى الأديب إلى الرسام حتى تكاد الفواصل تمحي في هذا الالتحام الخلاّق. (7) يسرق الدكتور نصر من عمره شيئا للتعبير بالقلم وشيئا للتعبير بالريشة حتى يلوذ بروحه التواقة إلى التحرّر من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية وهو بذلك يقول دون أن يقول : أريد أن أنتصر على الموت حتى أحيا في كتاب أو لوحة. ونقول في الختام : إن من يقوم بدورك في الطبّ متوفر وبشكل متراكم وقابل للتخريج والاستنساخ ولكن لا توجد إلا نسخة يتيمة تتقمّص روحك الأدبية والجمالية يا دكتور نصر فطوبى للأدب وقد فاز بهذا الطبيب الذي هو أنت.