«من ذهب الى فرنسا فهو كافر أو على الاقل زنديق». تذكّرت هذه الصرخة التي كان يرددها نور الشريف في مسلسل: أديب قبل 24 سنة وأنا أضع خطاي لاول مرة في باريس... باريس التي افتتن بها المثقفون العرب منذ القرن الثامن عشر في بحثهم عن نموذج للحداثة في عالم عربي غارق في التخلف والبؤس. عندما وصلت الى باريس وجدت نفسي محاصرا بذكريات الحي اللاتيني كما قرأتها في «أيام» طه حسين وفي «زهرة العمر» لتوفيق الحكيم وفي «الحي اللاتيني» لسهيل ادريس كأنني أعرف هذا المكان الساحر منذ زمان... أليست القراءة سفرا أيضا؟ لكن ماذا بقي من باريس الخمسينات... ماذا بقي من باريس الانوار... باريس سارتر وسيمون دي بوفوار... وكوكتو و»مونمارتر» وجينيه وكامي... ماذا بقي من باريس السرياليين والبوهيميين؟! إن العولمة أكلت كل شيء حتى سحر المكان. ذلك أن الحي اللاتيني ومقاهي سان ميشال ومنبرناس تحوّلت الى مقاه سياحية الدخول اليها بمثابة العقوبة ذلك أن فاتورة الحساب أكبر من أحلام الشعراء والرسامين الذين شاخت أحلامهم كما شاخ ألبير قصيري الروائي المصري المقيم في باريس وهو يكاد يكون الكاتب الوحيد الذي مازال يرتاد مقهى الفلور شاهدا على ذكريات الزمن الجميل عندما كان هذا المقهى يعجّ بكتّاب فرنسا الكبار سارتر كامي جينيه كوكتو سيمون دي بوفوار فرنسواز ساغان... في رحلتي الاولى لباريس التي امتدت لعشرة أيام كنت أسأل نفسي عن حظ الثقافة العربية في باريس وفي فرنسا هل استطاع المثقفون والمبدعون العرب المقيمون في فرنسا وباريس تحديدا أن يقدموا صورة عن الثقافة العربية وعن حقيقة العرب والمسلمين الذين يتعرّضون لابشع أنواع القمع في مستوى الصورة التي تروّجها وسائل الاعلام بتأثير الدوائر الصهيونية، صورة العربي القاتل الذي يسفك الدماء ويغتصب النساء ويملك حريما من النساء... لكن الاجابة للاسف الشديد لم تكن في مستوى الطموح... فعلى 23 دولة عربية لا توجد إلا ثلاثة مراكز ثقافية عربية وهذه المراكز هي: سوريا والجزائر ومصر يضاف الى ذلك معهد العالم العربي ومعهد الفنون والآداب العربية ودار تونس... هذا كل الحضور العربي في الثقافة الفرنسية أما الجمعيات العربية فأغلبها غارق في الخصومات والمعارك وهي عاجزة عن التأثير في الرأي العام الفرنسي بل أن بعضها يحترف العمل ضد البلاد التي ينحدر منها أعضاء مكاتبها باسم الديمقراطية وحقوق الانسان وهي لا تزيد عن كونها «دكاكين» تعيش بإعانات باسم الثقافة والعمل الجمعياتي ولكن هذه ليست كل الصورة. فهناك جهد تقوم به النخب العربية ومن أبناء الجيل الثاني والثالث للهجرة لتقديم صورة حقيقية عن الثقافة العربية. جهود الكاتب الجزائري الطيب ولد العروسي مسؤول المكتبة في معهد العالم العربي باريس يقوم بجهد حقيقي في ربط الصلة بين الضفتين من خلال نشاطه ليس في المكتبة فقط بل في المعهد عموما إضافة الى مساهماته في الاذاعات العربية في باريس. أما الكاتب المصري أسامة خليل مدير معهد الفنون والآداب العربية فيعتبر أن الدور الاساسي للمعهد هو ربط الصلة بين الثقافتين العربية والاوروبية والفرنسية تحديدا لذلك يقول أسامة: ينظم المعهد لقاءات حول الثقافة العربية بشكل دوري ويقدم الكتب العربية الصادرة في فرنسا خاصة ويحاول تكوين حلقة من المهتمين بالثقافة العربية في باريس من الفرنسيين وغير الفرنسيين... ويضيف: هذا دورنا الاساسي أما الدكتور هادفي مدير المركز الثقافي العربي السوري في باريس فيعتبر أن هذا المركز ليس مركزا سوريا بقدر ما هو مركز للثقافة العربية من خلال اللقاءات والسهرات التي ينظمها والتي يدعو لها مثقفين من العالم العربي ومن أوروبا من بين المهتمين بالثقافة العربية. ومن بين الفضاءات التي تقدم أيضا جوانب من الحياة الثقافية العربية مسجد باريس الذي أنشئ سنة 1926 وهو بإدارة جزائرية ينظم من حين الى آخر لقاءات ثقافية تتعلق أساسا بالاسلام... الى جانب إذاعات المهاجرين مثل الشرق والشمس كما تحتضن باريس وخاصة في الحي اللاتيني وفي محيط معهد العالم العربي عددا من المكتبات العربية منها مكتبة تونسية وهي مكتبة ابن رشد. لكن هل يكفي هذا في بلد فيه أكثر من 5 ملايين عربي؟ بينهم نخبة كبيرة من الاطباء منهم 5 آلاف طبيب سوري و5 آلاف طبيب من المغرب العربي وعدد لا يحصى من أساتذة الجامعة في الاختصاصات العلمية خاصة؟ تقصير إن حضور الثقافة العربية في باريس أخذ للاسف في جانب ما، طابعا فولكلوريا لم يتجاوز المقاهي العربية بمذاق «الشيشة» و»القهوة العربي» ومحلات المقروض والزلابية ومطاعم «الكسكسي» و»المراز»! فالثقافة العربية أكبر من أن تكون مجرد فولكلور يغري الغرب بالاكتشاف... في نظرة فيها الكثير من الدهشة والسحر.