عام يمر على بداية الحرب ضد العراق... عام يمضي على إعلان بداية الهجوم على العراق... عام مضى على ضرب قلعة من قلاع التاريخ: فلماذا هزنا الحدث؟ وما الذي يمكن أن نرتجي من كل التفاتة نحو تلك الحرب اللعينة التي ضربت العرب في العمق وجعلتنا نضع ثقافتنا أمام أدوات الاستفهام؟ إن الحرب معضلة ذ فيها يواجه الانسان الدمار ويعايش الرعب لان الموت منه قريب فيقاوم القصف والتشرد والجوع والعطش والبرد لانه يسعى لحفظ وجوده كفرد وكقيم لها انتماء وجذور. إنها حرب ضد إنسان يجسّده وجود حاضر لم يرق للآخر، فأدانه وحكم عليه بالموت وأقسم على تنفيذه فكانت القوة منطق انقلاب على ذاك الصرح الذي أربك بعظمته وجبروته وقدراته «الغازي» فكانت «مقاومة» متواصلة دفاعا عن مشروعية وجود ذاك الانسان. إنها حرب ضد القيم تلك التي كانت تقدس الهوية والخصوصية والمثل الخالصة فطعنت فيها قيم النفع والاستهلاك والحضارة في تشدقها بذاتية غارقة في الرغبات واللذات: «وتتميز هذه المعرفة العلمية عن كل الاشكال التقريبية بل المشكوك فيها من المعرفة والمعتقدات والخرافات التي سبقتها بقوة بداهاتها وبراهينها... فلماذا اقترنت هذه المعرفة بانهيار كل القيم الاخرى وهو انهيار خطر لدرجة أنه يهدد وجودنا نفسه... ها نحن نشاهد قبالتنا ما لا أحد شاهده من قبل: الانفجار العلمي وقد اقترن بإفلاس الانسان. هذه هي الوحشية الجديدة». * ميشال هنري إنها حرب ضد التاريخ ذاك الذي يقدم الأمم ويرفع من شأنها أمام ذاتها والآخرين إذ فيه تكمن خصوصية الشعوب إنه أفق الروح في تعاليها عن الزمان والمكان وفيه تبرز رفعة المقدّس ضد كل مدنس وفيه روعة الفنون وهي تشهد الجميع على عظمة ما تقدمه للذائقة العربية والغربية والانسانية. فلم قصف الاطفال والشيوخ والعجائز؟ ولم نهبت ثروات متحف بغداد؟ ولم دكّ الرصاص النجف وعتباته الشريفة؟ إنها الحرب... «أتذكر السيّاب... يأخذ عن حمورابي الشرائع كي يغطّي سوءة ويسير نحو ضريحه أتذكر السيّاب حين أصاب بالحمّى وأهذي: إخوتي كانوا يعدون العشاء لجيش هولاكو ولا خدم سواهم... إخوتي أتذكر السيّاب... إن الشعر تجربة ومنفى توأمان، ونحن لم نحلم بأكثر من حياة كالحياة وأن نموت على طريقتنا: عراق، عراق، ليس سوى العراق» * محمود درويش هي الذكرى... ولابد من عبرة حتى لا تتكرر مآسينا وتتعاظم مصائبنا. هي الذكرى... وهي تلحّ علينا أن نجلد ذواتنا حتى نتمكن من تجاوز همومنا ونؤسس وعينا الجديد. هي الذكرى... أو هي الحرب التي لا يمكن أن تطرق بابنا من غير أن تطبع وجودنا وتشدّ على أرواحنا لنكون أوفياء لكل لحظات آلامها إذ أن الوعي الانساني لا يمكن أن يكون ممكنا إلا بهذا الجدل بين الكيان والعدم وبين الحياة والممات. هي الحرب وهي تلح علينا أن نتجاوز سلبيات وجودنا الذي يقدس الماضي أكثر من معايشته للحاضر فيجعلنا سجناء تفكير السلف لا نقدر على مغادرته. هي الحرب تنبّأنا أن «الصوت الواحد» و»الرجل الواحد» و»الفكر التقديسي» و»إيديولوجيا الشعب والأمة» منطلقات غدت بحاجة لاعادة النظر لانها تكريس لثقافة السائد في تهميشها للاختلاف والتنوّع. هي الحرب وهي تجمعنا وتدعو وعينا لمعايشة نتائجها تلك التي تطور ضرورة انتماءنا «للأمة» في سعينا لاستشراف مستقبلها ذاك الغد الذي وجب أن يكون بديل الامس. لقد كان الموت هو ضريبة هذه الحرب وهو الذي حكم كل أيام وشهور «المغلوبين» ولكنه لن يكون اقتيادا أعمى «بالغالب» بقدر ما سيكون بصيرة جديدة تتوجه الى نشر الحياة فلن ولن تنهزم روح فداء الانسان طالما أنه يعي وجوده الارادي ويقصد غده بمعنويات عالية وبعقل نقديّ مفتوح. إن ثقافتنا اليوم تلح على إنسانها العربي الجديد أن يستوعب جيدا دروس «علم التاريخ» وأحكام قوانينه مثلما يستوعب أيضا منطق هذا العالم الجديد عالم «موت الايديولوجيا» وظهور «علم الجغرافيا» إنه علم «هرسلة الهوية» واقتصاد الجميع الى «القرية الالكترونية» حيث «الاخ الاكبر» وحيث نكون جميعا إخوة في قيم النفع. إن ثقافتنا العربية اليوم بعد عام من «صدمة الحرب على العراق» آن لها أن تنزع القناع عن ذاتها وتشهد نفسها على نفسها خارج كل لطم للخدود وخارج كل أصوات للعويل ففي جلد الذات وفي استشراف المستقبل يتحقق حضورنا وتشعّ بحق ثقافة «الاختلاف». بعد عام من إعلان الحرب على العراق... وبعد عام على سقوط بغداد... وبعد أزمنة ثقافة السلف الصالح تلك التي تجذرت في أصولنا الاولى... كان ولابد من دق طبول التحلق حول أسئلتنا... ففي تلك الاسئلة تكمن تقوى الفكر وبهجة الوجود... وغدا سيكون ناظره قريب... مطر... مطر... مطر في كل قطرة من المطر حمراء أو صفراء من أجنّة الزهر وكل دمعة من الجياع والعراة وكل قطرة تراق من دم العبيد فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد أو حملة تورّدت على فم الوليد في عالم الغد الفتي واهب الحياة! مطر... مطر... مطر سيعشب العراق بالمطر»