سقطت «بغداد»... سقطت قلعة من قلاع الثقافة العربية... تلك المنارة التاريخية والحضارية... والقيمية... فمن لها غير الشعر؟ ومن لها غير صرخة انسانية تدعو لغد أجمل ولسلام منتشر؟ «أتذكر السيّاب يصرخ في الخليج سدى. «عراق، عراق، ليس سوى العراق» ولا يرد سوى الصدى أتذكر السياب... في هذا الفضاء السومريّ تغلبت أنثى على عقم السديم وأورثتنا الارض والمنفى معا أتذكر السياب... إن الشعر يولد في العراق فكن عراقيا لتصبح شاعرا يا صاحبي!» محمود درويش هو الشعر فاتحة القول... هو الشعر أول الكلام عرفته العرب ونبغت فيه... هو الشعر لسان حال القبيلة به تفخر وبه تتغزّل وبه تهجو وبه ترثي... هو الشعر الذي عشش في تخوم الذاكرة حتى صار بداية إنساننا العربي ونهايته فكان يرفع منزلتنا الى أعلى ويناجي ذواتنا لعلها تستريح من عناء هذا الوجود ذاك الذي أصبح، اليوم، أشدّ قتامة مما كان عليه أيام مجد ذهب من غير رجعة. إن تاريخ العرب يذكر جدل الشعر والحرب مثلما يذكر نبوغ «القوم» في الرثاء قريحة وصناعة وتخيّلا تدمي الحجر تفجّعا لما يسمع فإذ هي الحرب تبتلع أرواح من نحب وتحصد الرقاب صغيرها وكبيرها: أعينيّ جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى ألا تبكيان الجريء الجواد ألا تبكيان الفتى السيّدا طويل النجاد رفيع العماد ساد عشيرته أمردا يحمّله القوم ما غالهم وإن كان أصغرهم مولدا جموع الضيوف الى بابه يرى أفضل الكسب أن يحمدا الخنساء لقد أنتجت الحرب أحقادا ومآسي ودماء لا يمكن أن ينكرها البشر ولكن هذه المعارك كانت ضرورة لتطوير الذوات لتكون بحق لحمة وقدرة على تجذير الانتماء الى الوطن والى الأمة والتاريخ إذ في هذه الضربات الموجعة للاجساد تبرز «الروح» ويلتفّ الجميع حول المشترك بينهم إنها محبة التضحية والفداء والوفاء للقيم تهز الافراد فيذكرون الماضي ويتحسرون على أخيار رجالاته ويدافعون عن وجودهم الحاضر بتأكيد تحدّيهم «للآخر» سالب الحرية. فهل من الصدفة أن ينشر آلاف الشعراء في ذاك اليوم العالمي للشعر قصائد تندد بالحرب ضد العراق؟ وهل يكون من العبث أن تتوجّه في ذاك اليوم 5 مارس 2003 خيرة الاسماء الشعرية في العالم بنداء عبر الانترنات الى الاصوات الحرة أينما كانت للسعي لايقاف الحرب ضد ذاك الانسان أينما كان؟ لقد كانت حربا ضد «الهوية» والتاريخ والانتماء معركة نشر فكر العولمة في سلبه كل شيء الحياة من الضعيف والقيم من الفقير والصوت من ذاك العنيد المخالف الرافض لكل وصاية عليه وعلى أطفاله وصباياه وشبانه وشيوخه. إنها حرب توجهت لذاك التاريخ ذاك الذي عانق به الانسان العربي ريادة وجب انهاء بريقها فضربت كل «رمزية» يعشقها الفرد العربي وأهين فيها الانسان. إنها حرب تنادي أنصارها فكان للسلام معهم وجود ميّزه صوت الرافضين لانتهاك الحق والعدل والمساواة... إنهم حملة قلم لا يعرفون نصرة الموت بقدر ما يعرفون نصرة الحياة فكتبوا دفاعا عن ذاك الانسان أينما كان ذاك الضعيف الذي تسعى لتفتيته آلات الدمار: دمار الحياة والقيم: «من نعزّي حين يموت الاطفال في أحضان أمهاتهم؟ من نؤاسي حين نضيء شمعة مشى عليها إنسان ذات مرة؟ كيف نملأ الفراغ كيف نردم المساحات الخالية التي تولد كلما أشعلنا نارا لنعتّم الارض؟ تحت أي ظلال نرقد حين يدهمنا النعاس بعد أن يدمروا عالمنا في حرب باسم السلام؟ شابير بانوباي (جنوب افريقيا)* إنها أصوات لا تنتظر مكافأة من دولة مّا ولا تتعطش لنيل مجد أو رفعة في هذا الزمن العاشق للمال بل هي تدافع عن حق في الوجود وعن تاريخ يحب «الشعر» مثل حبّه للحياة أو أكثر. لقد كان صوت الشعر يومها وقبله ومن بعده إطلالة على حرية عشقتها هذه الامة وطلبت من حاضرها أن يكفلها فاستجاب ذاك «الذعر» لها لانه يعلم عمق احترامها لذاك الكلام الرقيق المنساب من تجليات باطنية ترفض الاستسلام وتقدس الدفاع عن قيم الانسان. إنه الشعر ذاك الصوت الذي لا يعرف غير الحرية طريقا ذاك الذي أوكل له فلاسفة كبار مفاتيح العالم فإذ هو خير من يخرج الانسان من نسيانه الى وجوده على حد عبارة هيدقار أو هو نافذة على عمق الانسان ذاك الفيلسوف الفنان على حد تعبير نيتشه . إنه الشعر يعرف جيدا أن الحرب تحصد الارواح ولكنها تفتح أبواب الحياة ليكون هناك الوجود الحق وجود الانتماء المؤسس على «ذائقة الموت» مسؤولية كل حر في الوطن يرفض الاهانة ويتوق لحياة الابطال الاحرار. إنه قلق مشروع... فبعد سقوط بغداد لابد للاسئلة أن تشتعل في سماء جديدة تؤمن «بالاختلاف» ضرورة لتأسيس مستقبل «ديمقراطي» في وطن جديد لا يرضى لنفسه غير نفسه ويكره استبداد الذات مثلما يكره استبداد «الآخر» فللحرية طريق واحد... والشعراء يعرفون أبدال ذاك الطريق... فما بين الحرب وبين الامة... وما بين الشعر وبين الحرية تكمن تلك السبل الرائقة تلك التي يقودها أبدا عظماء الرجال: أو ليس الشعراء ورثة الانبياء دعاة للفضيلة؟ وأي فضيلة يسعى اليها الانسان أرقى من ذاك السلام؟ «كل شيء بات واضحا... الآن وقد كتبت قصيدة ضد الحرب في العراق أو في أي مكان آخر علما أنه واقعة لا محالة بات في وسعي أن أغسل يديّ من دم هذا الصديق أن أتمدّد مطمئنا وأن أشعر بالرضا بات في وسع الحرب أن تندلع بعدما أرحت ضميري وإذا سألني يوما ابني الذي لم يولد بعد: ماذا فعلت لكي توقف تلك المجزرة يا أبي؟ سأجيب: «أنا؟ لقد كتبت قصيدة ضد الحرب» يان أوسكار هانس* (البرتغال) قصيدة ضد الحرب... لنردّ بها على من يغتصبنا على من يجرفنا الى بحر مآس مشتركة ويدفننا نحن وآخرين تحت عجزنا العنيد عن الحياة قصيدة ضد الحرب بلا تخفّ بلا هرب قصيدة محلّقة بلا إحجام سكوت واتسون (اسكوتلاندا)* هوامش : (*) راجع شروق الابداع: الجمعة 28 مارس 2003 ص8. مقتطفات من 12 ألف قصيدة ترجمتها اللبنانية جماعة حداد ونشرتها «إيلاف». يوم 5 مارس 2003 كان يوما عالميا ل «الشعر ضد الحرب» نشرت فيه 12 ألف قصيدة ضد الحرب لشعراء من مختلف العالم على شبكات الانترنات.