حين دعاني السيد علي بوسلامة المكتبي والناشر والكاتب ورجل الاعمال الى بيته في ضاحية قرطاج كان يرغب في الحديث عن الكتابة ومستوياتها والمتدخلون فيها وما تشهده من تطورات كبيرة ومن نقلات نوعية في العالم المتقدم. خلاصة الحديث كانت إن الكاتب لم يعد هو الذي يخط ويخطط بقلمه في غفلة عن نفسه وعن الآخرين ينشد مدينته الفاضلة او الراذلة، بل إنالكتابة صارت صناعة مثل غيرها من الصناعات الثقيلة منها والخفيفة يتدخل فيها حشد من الرجال والنساء، بل ان الذهنية العميقة الكلية للحظة من الوجود الحضاري تتدخل عفو لخاطر او رغم الخاطر، من أجل انتاج المعنى المديني العمراني والرموز المجتمعية والمتعة الفردية والعامة وصياغة الذاكرة الجماعية وتحقيق الاشعاع الكوني والرواج التجاري وجني الارباح، كل ذلك في عملية محكمة الحلقات ذات السياقات المترابطة والغايات الواضحة ومن ضمن ذلك حدّثني عن زيارته الى أمريكا في بداية الثمانينات، وكيف أمكن له التعرف على أكثر من سبعين دار نشر أمريكية من مختلف الاحجام والاختصاصات، وكان جميعها تشترك في التعامل مع ما يسمى الكاتب، حيث ان دوره لا يقتصر فقط على تقديم مخطوطات منجزة من أجل نشرها، بل هناك أنواع من الكتاب منهم الكاتب الذي يقدم كتبا يقع التدخل فيها من قبل الناشر، اي من قبل لجانه المختصة تعديلا وحذفا واضافة وتغييرا وهناك الكاتب الذي يقدم تخطيطا لكتاب يتولى أناس آخرون مهمة كتابته، وهناك الكاتب الذي يقترح فكرة كتاب يُنتدب لها محرر او محررون يقومون بصياغتها وتحويلها الى كتاب، وهناك ايضا الكاتب الاسم الذي يتولى الكتابة على مسؤوليته بصفته نجما فيضطلع كتابه من ألفه الى يائه، لكن في كل الاحوال مهما كان شهرة الكاتب او انعدام شهرته، فإن اي كتاب منشور لأي كاتب لا يمكن ان يخلو من بصمات ومراجعات معلنة او خفية للمصححين او المنقحين أو المحررين يتم ذلك وفق مكانة الكتاب وشهرتهم. كان يجدر بي أن أسأل السيد علي بوسلامة وهو يقطع المسافة الخطيرة بين الناشر والكاتب عمن يقوم له بعملية تصحيح او تنقيح او تحرير كتاباته فضلا عن الكتب التي ينشرها او نشرها للآخرين؟ لكن المقام لم يسمح بذلك، وربما عثرت على اجابة ما في دراسته المسلسلة في مجلة الامتياز التي تصدرها شعبة قمرت القرية برئاسة السيد مصطفى بوعزيز وهي مجلة فصلية ليست بعيدة عن اسمها، تأسست في مارس 1998 وفيها مساهمات قيمة لنخبة من الاقلام المعروفة. وفي خاتمة الحلقة الثانية من دراسته «قرطاجيات» نجد تعليقا للمؤرخ محمد قريمان عن المعلومات التي تضمنتها الدراسة، وكأن علي بوسلامة يرغب في تحري مزيد الدقة لما يكتبه كشكل من أشكال تحويل الكتابة الى شأن غير شخصي محض، وانما هو شأن يخضع لشراكة مع الآخر سواء بالمراجعة او التصويب او التنقيح او التصحيح او التحرير. ثم ما هي الكتابة في آخر الامر اذا لم تكن شركة خفية الاسم رقاعها معلومة وفوائدها معلنة بكثير من الشفافية والتواضع غير الوضيع وفي حوار جماعي علني مفتوح يسمح لمن شاء ان يساهم بأسهمه وأرصدته ورأس ماله الرمزي؟ يشبّه علي بوسلامة الكتابة بالفلاحة ويستشهد على ذلك بمثل تونسي جميل، فيه الكثير من معاني المثابرة والصبر والاصرار والايمان بالارض وبالسماء : «الفلاحة دوام والصابة أعوام»... فعلا، كم تشبه الكتابة في ذلك الفلاحة، كلاهما مداومة دؤوبة، فيها كل مشاق الدوام، ودوام الحال من المحال، وفيهما صابات واصابات ومصيبات وخبرات وخيرات في أيام غير كل الايام وفي أعوام إثر أعوام. الكتابة هي الاخرى فلاحة، ثم من يفلح في أرض خصبة تجري المياه من فوقها ومن تحتها، وثمة من يفلح في أراض غير السقوية، ومن يفلح بالطريقة العصرية : الري قطرة قطرة، ومن يفلح في الأراضي القاسية الوعرة، ومن يفلح في أراض لا تفلح، وثمة من يميت الارض وثمة من يحييها، ومن يفرّط فيها ومن يستولي عليها، وثمة من يستعمر الارض ومن يعمّرها، ومن يغامر لاكتشاف الارض ومن يقامر بالارض... وثمة من فهم فهما نهائيا ان الفلاحة مثل الكتابة لم تعد عملا يدويا بدائيا أو شأنا خاصا لشخص بمفرده يستمطر سماء خياله ويخبط خبط عشواء متوهما ان هلوساته فواكه وثمار... اختار علي بوسلامة ان يفلح في أرض قرطاج، في أرض التاريخ الخصب، تركيز اهتمامه ومدار حياته وفي دراسته الشيقة حول تأسيس قرطاج يقول : «وما قدوم عليسة وأسطورة جلد الثور الا مسرحية خيالية ولكنها حلوة الرواية والنسيج (...) ان قصدنا من هذه الدراسة هو التأكيد على ان اختيار عليسة ونزولها في هذا الموقع بالضبط لم يكن من باب الصدفة أبدا، بل كان أمرا مقصودا هادفا، مدروسا ومضبوطا ومبيتا، حسب مخطط دقيق توفرت فيه شروط ومواصفات ضبطت من طرف اخصائيين هم حكماء فينيقيون عارفون بقواعد تأسيس المدن والثغور الساحلية، وما تتطلبه من مقاييس وشروط طبيعية حسب تجارب ودراية وعلم بطبيعة الرياح والطقوس حتى يطيب العيش في هذه المدينة...» ذلك تاريخ وهذا حاضر فلنقلب النظر فإن الكثير من الامور لا تتم مصادفة حتى وإن خالطتها الأساطير! لقد توحّد الرجل بالمكان حتى صارت قرطاج بالنسبة اليه هي مطلق الزمن. روى لي علي بوسلامة وهو يحدثني عن مسرحيته صفونيسبا التي هي ابنة صدربعل، أنه يشعر أحيانا ان تلك المرأة الفائقة الجمال تلمّ به في بعض الليالي في زيارات خاطفة، وهوالذي يقول عنها انها كلما مست رجلا جعته يقع في حب قرطاج ويكره أعداءها. يقول عنها سيفاكس زوجها في مسرحية علي بوسلامة : «هل صادف في حياتك ان أحببت واحدة كالتي أحببت أنا يا شبيون : صفونيسبا، صدقني يا شبيون ان جمال القرطاجيات جمال لا مثيل له لا في روما ولا في أثينا ولا في الدنيا قاطبة فلقرطاج سحر لا يضاهى وللقرطاجيات سحر لا مثيل له.. أقوى من اي سحر يا شبيون، إني عشته وعايشته، إني جربته وبه حييت، وبه تنعمت وبه تمتعت، وكأن أشعة شمس قرطاج الساطعة يا شبيون لما تلامس بشرة القرطاجيات البضة البيضاء تصير سمرة رائعة بل سمرة الخمرة، والعسل المصفى حلو المذاق يقطر من العينين الخضراوين يا شبيون فحتى نحافظ على هذا الجمال كان يحلو لنا القتال نحن النوميديين يا شبيون!». يقول علي بوسلامة ان تاريخ قرطاج كتبه أعداؤها والبعض من المؤرخين التونسيين يكتبون ما تعلموه عن أساتذتهم، ويقول ايضا هذا الرجل الذي زاول مهنا عديدة : «مسكين ذلك الذي لا يعرف الكتابة، انها أكبر متعة في الوجود» والعهدة عليه!