« لا تصالح ولومنحوك الذهب أثرى حين أفقأ عينيك تم أثبت جوهرتين مكانهما هل ترى ..؟ هي أشياء لا تشترى» أمل دنقل (1)
زرقة الكرسي المخملي الذي مُنح لفلسطين كدولة غير عضو بصفة مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة هي زرقة الرّغبة في الخروج من زرقة الموت الحالكة الى زرقة بهرة الضوء في قرنية من فقد بصره.. قدّاس حمل الكرسيّ المخملي في مجمع الأممالمتحدة ذات خريف سيتحوّل الى لحظة انتصار رمزي لشعب ممخور بالأمل، مشهد يعيد الينا في طقوسيته حمل « تابوت العهد» التوراتي من طرف ملاكين حارسين وان كانا من موظفي مقر الأممالمتحدة، ويعيد الينا بأن فلسطين توراتيا تنتصر... أجل كرسي مخملي أزرق للخروج الى دائرة الضوء وبهرته لشعب شهد لتوّه وصية التقتيل في غزّة .وغزّة رخصة مفتوحة للصيد في ربيع مظلم يدفع شعبا الى الصقيع على هامش«سفر الخروج».
(2)
تذكروا جيدا تلك الصور الفوتوغرافية لتهجير الفلسطينيين في عام 48. جحافل من الناس في رحلة التيه الطويل، مطأطئي الرؤوس، مكسوري الهامات، عليهم أرخى الظلم التوراتي سدوله ليبتليهم في العراء، ربما شيء واحد ينفلت من تلك الصور، نظرات الأطفال المحدقة في قرنية الكاميرا تمتص الضوء كله من عيون الأطفال اليهود النازلين لتوّهم على شاطئ حيفا من على متن سفينة «أكزودوس». وتفحصوا جيدا صور أهالي سليانة في خروجهم ذاك، تفحصوا وجوههم ناضحة بالعزّ والكرامة والنصر على الظلام، تفحصوا الرّجال الأشاوس والنساء اللبؤات، وأنظروا الطريق المفتوحة أمامهم كدرب طويل ينبع من التاريخ النوميدي ليمتد فصيحا في اتجاه الحرائق.. الأمازيغ يضمّخون جدائلهم بالعطر والزيت كما يفعلون مع الخطاف في انتظار المعركة الحاسمة.
(3)
في مشهد شهير من شريط «الوصايا العشر» Les Dix Commandements للمخرج الأمريكي سيسيل بي دوميل Cecil .B. De Mille حين يسأل هارون شقيقه وهما يراقبان جموع اليهود غارقين في الهرج والجنون عند نجاتهم من بطش فرعون يجيبه موسى «دعهم يمرحون.. أنهم شعب يختمر».. أجل انه شعب نجا لتوّه من الرّق بمعجزة شق البحر بالعصا وعليه أن يمرح قليلا في انتظار الوصايا العشر وأثناء ذلك سيبتكر هذا الشعب لنفسه الها جديدا مؤقتا هو العجل الذهبي في انتظار الشريعة المنحوتة على الألواح الحجرية المصهورة بالنار المقدسة. ان مشهد الخروج الذي تحوّل سفرا في التوراة سفر الخروج Le livre de l'Exode ظل الحدث التأسيسي الذي قاد العبرانيين من «الخروج التوراتي» الى «الهروب» من المحرقة على متن الباخرة «أكزودوس» Exodus ليدفع شعبا آخر عام 1948 لتمثيل مشهد الخروج الذي تحوّل ترحيلا سُمّي في تاريخ المهزومين بالنكبة.. هكذا حُبك «سفر الخروج» في سيناريو أُتقنت كتابته بالشكل الذي ترتهن فيه الذاكرة لصورة شعب يخرج مختمرا ليدخل مكان شعب يخرج ممخورا بأمل العودة وهو يقطع صحراء الخديعة التاريخية من ذوي القربى قبل الغرباء.. الخديعة، تلك المرارة التي أحسن كتابتها الكنفاني في بلاغة موجزة في روايته «المخدوعون».
(4)
هذا زمن المخدوعين. والمخدوعون هنا فوق الأرض وتحت السّماء، والخديعة هنا ليست خداعا بصريا وليس تكنيكا فوتوغرافيا، وليس غراما شبقيا يُقترف في ظلمة العلبة السّوداء للكاميرا وليس لعبة هندسية في كتاب «المناظر» لابن الهيثم، انها يقين الصّحوة البارد يواجه خداعا بصريا, والخداع البصري هنا بارود من الكسكسى يخترق قرنية العيون حين تتكشّف على عورات من أعادوا عبادة «العجل الذهبي» الذي تحوّل في التأويل الى ثورة بوصفها أنثى للثور, والثور لا يقدر على حمل الأرض بقرنيه على أرض أولاد عيار منذ أن كانت هذه الأرض النوميدية هدية خجل وزهد لأميرة صورية اسمها «هليسار» أو«عليسة» قايضت ربوة بيرصا بخيط رفيع لجلد ثور.. المخدوعون هنا هم أولاد عيار, أقوام من نوابت هذه الأرض المفتوحة والمعبدة على جثث المحاربين النوميديين في المعارك القديمة التي خدعتهم. فزهدوا في الدنيا الا في الكرامة. لم ينس هؤلاء مشهد الانبطاح على الأرض قبيل معركة زامة أوجامة، اذ يشير المؤرخ الروماني بلوتارخ Plutarque كيف أرسل القرطاجيون السّفراء الشيوخ الى شبيون الافريقي Scipion عارضين عليه الصلح وقد انبطحوا على الأرض أمام قدميه أمام أعين النوميديين أصحاب الأرض، ومن نجا منهم في جيش حنبعل باركا بعد هزيمته في معركة زامة شاهد بأم عينيه حادثة اذلال مشابهة لزعماء قرطاج العشرة اللذين «يسفون التراب» واللذين أرسلوا لعقد الصلح بعد هزيمة قرطاج.
(5)
لم تشهد تونس منذ تاريخها ذلك المشهد المهيب لآلاف الناس من أهالي سليانة رجالا ونساء، شبانا وكهولا وشيوخا وأطفالا، وهم يغادرون مدينتهم في خروج رمزي في اتجاه العاصمة احتجاجا على أوضاعهم المتردية في الزّمن الأخواني السّعيد التي قوبلت من طرف البوليس بعنف غير مسبوق. هؤلاء هم أحفاد أحفاد النوميديين اللذين قرّروا أن لا ينخدعوا مرّة أخرى، ولن ينبطحوا لكائن من كان. لن يعبدوا العجل الذهبي الجديد ولن يركعوا الا للكرامة. وقرّروا أن يكتبوا جميعا في لحظة فارقة من تغوّل الحكومة التيوقراطية التي جرّبت فيهم هبات الدولة القطرية أسلحة العماء الشّامل أن يكتبوا بأنفسهم «سفر الخروج»، الخروج من أرضهم ليتجهوا في قداس رمزي تجاه العاصمة تاركين ورائهم كل شيء.. «سفر الخروج» هذا هو سفر الكرامة، سفر الخروج من « الحقرة « والانتقام الرمزي للأسلاف.
(6)
قلتُ لم يحدث هذا ولم تشهد تونس منذ تاريخها القديم هذا المشهد المهيب الذي يذكرنا بنزوح الشّعوب أثناء الحروب والكوارث.. فأهل سليانة لم يحاصرهم نابليون ولا الجبش النازي، وليسوا شعوبا أرمنية تفر من مذابح الأتراك، وليسوا هندوسا وراء مسيرة الملح يقتفون آثار غاندي، وليسوا هنودا مسلمين يلتحقون ببكستان منفصلين عن الاتحاد الهندي، وليسوا بعرب فلسطين تطاردهم عصابات الهاغانا، وليسوا مغاربة في المسيرة الخضراء في اتجاه الصحراء، وليسوا بوسنيين يفرون من الميليشيات الكرواتية والفيالق الصربية، وليسوقبائل التوتسي يهربون من سواطير الهوتوس، وليسوا فوق كل ذلك أوتحته أسرابا من الطير تهاجر في مواسمها، ولا قطعانا من الوعول المتجهة الى مواطن تناسلها.. انهم أحفادُ أحفاد أحفاد النوميديين الأوائل الذين رضعوا الحرية والكرامة فوق هذه الأرض وتحت هذه السّماء، نوميديون يحفظون أغاني الغزل والملاحم ويحتفظون بذكريات المعارك على هذه الأرض من معركة زامة الى خروج علي بن غذاهم الى معركة برقو. والكرامة موشومة في جيناتهم. وجباههم لا تعرف الانحناء.. هؤلاء الناس أهالي سليانة أولاد عيار وأولاد عون غير منفصلين عن أهاليهم في كامل الشمال الغربي العصيّ، غير منفصلين على الفراشيش وماجر والزغالمة وأولاد بوغالم والخمامسة والحيادرة والجبارات والسّبيعات وأولاد ورتان وشارن والحنانشة وورغة والعيايشة والنمامشة وأولاد دريد وأولاد رياح وأضف اليهم قبائل جبال خمير والهمامة وكل العروش والأفخاذ.
(7)
في الخروج الرّمزي لأهالي سليانة الذي سيضاف للميراث الخلاق للتونسيين في ابتكار أساليب الدفاع عن الكرامة وأفكاكها من جيوش الظلام اللذين اهتدوا بوحي قطري في استهداف قرنيات العيون ببارود «الرّش», يتعثر امبراطور نوميدي صغير في رباطات حذائه البالي تختمر في رأسه عواصف قديمة فيرى وهويردد «لا تصالح» أن مسيرة الخروج حين تبلغ مداها ينهار عجل الغنيمة المقدس ويشهق خطاف بربيع نوميدي مبكر.. مبكر حسب التقويم النوميدي.. هذا شعب يخرج من أرضه الى أرضه.