عندما مات والده ورّثه بعض الأمراض المزمنة مثل الحساسية وبعض الديون البسيطة في كنّش العطار والخضار ووصية فيها الجواب عن سؤال طالما طرحه على والده دون جدوى.. كان والده يقول له دوما عندما تكبر ستعرف... السؤال كان بسيطا وكان في اعتقاده لا يحتاج إلى الحكمة التي تأتي مع ا لمشيب.. السؤال بسيط كيف أسافر يا أبي في هذه الدنيا؟ فتح الوصية وقرأ الردّ الذي حجب عنه سنين طويلة. اركب قطار الحياة وتحمّل مشقّة السفر.. رقم المحطّة صفر.. «زيرو». وذات اليوم حزم أمره وأمتعته وحمل عصا الترحال.. عصا ليس لها سحر عصا موسى ولكنها تنفع من لا يرى في العتمة.. وقف في المحطة ليبدأ من «الزيرو».... سأل عن القطار فقالوا له إنه لا يأتي في الموعد.. كثير العطب لا يحتمل المنعرجات والمنحدرات.. سأل عن العربة التي سيركبها.. هل فيها مكيف؟ قالوا لا.. هل فيها نوافذ؟ قالوا : لا هل فيها كراس على الأقل؟ ضحكوا حتى استلقوا على ظهورهم.. في هذه العربة يُسافر الناس واقفين إن وجد لهم مكان... بالاكتظاظ يشدّون بعضهم البعض ولا يحتاجون إلى عناج في السقف يتمسكون به في حالة الارتجاج... السقف يقطر ولا يحتاجون إلى مظلّة تحميهم وفحيح الريح يصم آذانهم... قال هل رفعتم الأمر إلى وزير العربات القطارية؟ قالوا فعلنا ولكنه مشغول بتطوير القطارات النفاثة.. لقد مرّ من قريتنا ذات مرّة ولكن حدّة السرعة جعلته يمر دون أن نراه. كالبرق مرّ... والغريب أننا رأينا تفاصيل نشاطاته في قريتنا في الصحف... ملّ السؤال وعاد ليفتح الوصية... قرأها من جديد علّه يجد الثغرة.. ربما أهمل كلمة أو سطرا.. ربما لم يفهم وصية والده... الوصية هي هي... هذا قطار الحياة وهذه المحطة رقم صفر... لمح كتلة دخان تبغ كثيفة يطل منها رأس مراقب القطار.. توجّه إليه مسرعا ومدّ إليه الوصية... قرأها وسعل مرتين قبل أن يقول : نعم أنت في العنوان الصحيح.. نزع قبعته وحكّ مفرقه ثمّ أضاف باستهزاء.. ماذا كنت تنتظر ؟ هذه محطّة القيم يا بني وأبوك كان واضحا... أنت تبدأ من «الزيرو».. وستتعب.. ستتعب كثيرا ومثلك يُصاب بالدوار إذا ركب القطارات النفاثة... تلك التي يترك المسافرون فيها أمتعتهم وأرواحهم... على رصيف المحطة...