في الحفل الأخير لمجموعة البحث الموسيقي بالمسرح البلدي بالعاصمة ما كان أحد يتصور أن الإقبال سيكون في حجم ما كانت تلاقيه المجموعة في عصرها الذهبي.. وإذا كان الإقبال مذهلا فليس من باب الحنين إلى الماضي فحسب وإنما لتوفر عنصر هام بات مفقودا في الفن التونسي في هذه الأيام.. هناك حفلات وعروض فنية كثيرة استنفر لها الجمهور ولا يزال وبأعداد غفيرة كذلك ولكن الاختلاف في المحتوى وخصوصا في صدق الأداء والتعبير.. ولعل أبرز ما يفتقد إليه الإنتاج الفني التونسي حاليا سواء كان موسيقى وغناء أو مسرحا وسينما هو الصدق في الأداء والتعبير... وعندما يفقد الفنان نزاهته وصدقه فإن الجمهور حتما سيفقد فيه الثقة ويقاطعه ولا يقبل على فنه.. نفور كثيرة هي الأسئلة والتساؤلات حول أسباب نفور الجمهور من الإنتاج الفني التونسي، مسرحا كان أو سينما أو موسيقى وغناء.. وإذا كان هناك من يبرّر هذا النفور بظهور اشكال فنية حديثة ووسائل اتصال جديدة وغزو ثقافي أجنبي وارتفاع حياتي مختلف تبقى تبريراتهم في كل الأحوال منقوصة ينقصها أهم عنصر في الإبداع الفني وهو الإيمان أو الصدق الذي يقود حتما إلى الجدية في العمل... نتاجات خالية من التجديد ومن يتأمل الانتاجات الفنية باختلاف أشكالها في هذه الأيام يلاحظ استسهالا مفرطا في التناول وسرعة غريبة في الإنجاز وسطحية على مستوى الطرح... وهذا الأسلوب مرده بالأساس غياب الصدق والنزاهة والجدية في العمل فأغلب الفنانين اليوم ليس كلهم بطبيعة الحال همهم الوحيد الإنتاج والترويج دون التفكير في القيمة الفنية للعمل ومحاولة البحث والتجديد فيما يقدمون... فهناك عشرات المسرحيات التي تنتج وتعرض يوميا ولكن لا أحد يقبل عليها.. وهناك أقلام كثيرة قدمت في السنوات الأخيرة ولكن الجمهور لم يقبل عليها.. وهناك أشرطة غنائية تصدر أسبوعيا ولكن دون أثر يميزها ويخلدها.. ولو يقع درس هذه الأعمال والبحث فيها سيكتشف أنّها خالية من كل تجديد على مستوى الأفكار نتيجة استسهال الفعل الإبداعي الذي يستوجب إيمانا وصدقا وبحثا حقيقيا... استهلك تونسيا.. وفي ظلّ هذا السلوك اللاإبداعي في الحقيقة وغير الصادق فإنّ رد فعل الجمهور والمستهلك عموما سيكون بالرفض والبحث عن مواد وظواهر فنية أخرى حتى وإن كانت هابطة ورديئة... والمنتوج الفني هنا لا يختلف عن أي منتوج استهلاكي آخر. فالمستهلك حين لايجد ما يعجبه ويشده في السوق المحلية يذهب إلى السوق الموازية. ولا يهم هنا إذا كانت السلع من النوع الرديء لأن كل السلع مستوردة كانت أو محلية هي رديئة... والمستهلك دوما يبهره كل ما هو أجنبي ومستورد... وبالتالي يقبل على كلّ ماهو غير تونسي... وإذا كانت قطاعات مثل النسيج والجلود وغيرها قد استفادت من الشعار الذي رفعته الدولة لإعادة الاعتبار للمنتوج الوطني وهو «استهلك تونسيا» فإن المنتوج الثقافي الوطني لا يمكن أن يستعيد موقعه وحضوره عند التونسي إلا إذا كان فيه صدق ورغبة حقيقية في الإبداع.