انطلاقا من أطوار الحدث الذي رسمناه نقترح هذه الخطوط العامة في كتابة نص مسرحي يستند إلى العناصر التالية: 1) التقطيع المشهدي 2) الصراع الدرامي 3) الشخصيات ما سنقترحه ليس نصا مستوفي المقومات والصياغة لأن كتابة أي نص مسرحي مهما كانت ملامح الفكرة وأبعادها جاهزة فإنه ينهل قيمته الفنية من قدرات الكاتب على تشكيل خصوصياته الفنية وتطريز التفاصيل التي تبرز جمالية الصورة بما يجعل تلك الفكرة بنسيجها وآليات تشخيصها كائنا حيا قريبا من وجدان المطلع على النص فضلا على مشاهد العرض. وبالمقابل فإن تلك العناصر الثلاثة هي بمثابة العمود الفقري الذي لا تستقيم أية كتابة تتجاهلها أو تغفل عنها أو عن بعضها. وهو ما يعني إمكانية حصولنا على أكثر من نص يتمحور أساسا حول اشكالية القضاء كما يطرحها بابي «الأسد والثور» و»الفحص عن أمر دمنة» بتفاوت في طرح القضية الجوهرية ومقاربة اشكالياتها الجانبية. ومع أن تلك النصوص قد تتباين في آليات كتابتها بحسب ما يستعيره الكاتب أو يستنبطه من مفردات أو يزاوج بين الاستعارة والاستنباط في بلورة نصّ لا يشبه الآخر، فإنها تظلّ في جوهرها تستند أساسا إلى تلك العناصر بما يؤكد القيمة الدرامية لبابين هامين من أبواب كتاب «كليلة ودمنة» بل لعلهما أهمها مع إيماننا بأن تلك القيمة الدرامية متوفرة في أكثر من باب من نفس الكتاب.1) التقطيع المشهدييشتمل هذا التقطيع على خمس لوحات تتقاسم خمسة عشر مشهدا، ويتراوح عدد المشاهد داخل اللوحة بين مشهد واحد في اللوحة الخامسة وخمسة مشاهد في اللوحة الأولى وهذا توزيعها، مع الأخذ في الاعتبار فضاء الحدث.الجدول (1) اللوحة الأولىالمشهد (1) : المقدمة المسرحية(Prologue/ الرّاوي يخاطب الجمهور فضاء الحدث : الفضاء المسرحي (الركح + القاعة). المشهد (2) : كليلة ودمنة/ النمر منزل كليلة ودمنة. المشهد (3) : النمر/ أمّ الأسد القصر (مقرّ إقامة الأسد). المشهد (4) : دمنة/ الأسد/ أمّ الأسد/ جندي/ الجند بوصفهم شخوص ثانوية(Figuirants البلاط (سدّة الحكم). المشهد (5) : الأسد/ القاضي البلاط. اللوحة الثانيةالمشهد (6) : دمنة/ كليلة/ فهد السّجن. المشهد (7) : دمنة/ القاضي/ سيد المجلس/ سيّد الخنازير: شغبر المحكمة اللوحة الثالثةالمشهد (8) : دمنة/ شغبر السجن المشهد (9) : أمّ الأسد/ الأسد القصر. المشهد (10) : دمنة/ القاضي/ سيّد المجلس المحكمة اللوحة الرابعةالمشهد (11) : أمّ الأسد/ الأسد القصر. المشهد (12) : أمّ الأسد/ النّمر القصر. المشهد (13) : الأسد/ النّمر القصر. المشهد (14) : الأسد/ الفهد القصر. ا للوحة الخامسةالمشهد (15) : إعدام دمنة السجن وما نستنتجه من هذا الجدول يتمثل في ما يلي : أ الحضور :كان دمنة حاضرا في 5/4 لوحات و15/7 مشهدا. مما يؤكد أهمية وجوده في قلب الحدث أي محورية شخصيته. يليه توازن في الحضور بين الأسد وأمّ الأسد كلاهما في خمسة مشاهد وهي معادلة التوازن بين صاحب الرأي وصاحب القرار في ضمان العمل السياسي السديد والقضاء العادل كي يكون صائبا. ب الفضاء :يحتلّ فضاء القصر 6 مشاهد في ثلاث لوحات، منفردا بهذا عن سائر الفضاءات : السجن : 3 البلط: 2 ا لمحكمة 2 هذا الفارق الهائل يعكس حميمية فضاء القصر في ادارة شؤون الحكم والقضاء وما ينطوي عليه من مجريات الأمور سلبا وإيجابا في صنع القرار كصراع الحاشية يقابله الاستنارة بالرأي السديد ونصح المستشارين. ج معادلة الشكل والمضمونلمّا يكون الحدث من الأهمية بمكان مشكّلا النهاية المأساوية المحتومة مثل «إعدام دمنة» يكون مقنعا أن ينفرد مشهد واحد بلوحة كاملة. وهذا المنطلق في بلورة خاتمة التقطيع المشهدي هو العنصر الايجابي البارز في تحقيق معادلة الشكل والمضمون التي ينبغي للكاتب أن يثريها بعناصر إيجابية أخرى يستلهمها من طبيعة الحدث وخصوصية الإطار وتيقن تمريرها في نسيج النص ككلّ وبالتوازي ينحو المخرج نفس المنحى في ما بعد انطلاقا من جهد الكاتب في الغرض بالتزاوج مع رؤيته وما تتيحه من إضافات ممكنة.2) الصراع الدرامي : الجدول (2)نستطيع أن نرسم مراحل الصراع الدرامي من خلال ما يتوزعه من مشاهد وفق ما يلي : المراحل وعدد المشاهد :المقدمة : (1 انطلاق الحدث/ تصعيده : (2) (3) بداية الصراع/ تصعيده : (4) (5) (6) توازن الصراع : (7) كفّة الصراع لصالح دمنة : (8) تعديل الكفة : (9) (10) كفة الصراع ضد دمنة : (11) (12) (13) (14) حسم الصراع وبه يحسم الحدث وينتهي بالكامل : (15) تستند بنية الصراع الدرامي وفق المراحل التي بيّنّاها إلى نسق حركي متوازن يعتمد الموقف والموقف المضاد ويوزّع المشاهد بحسب الغايات المرسومة لمختلف الأدوار والنهاية المستهدفة لكلّ مراحل الصراع والحفاظ على حركية النّسق دون إخلال أو تقطّع أو رتابة قد تصل الى حدّ الإملال وهو ما ينبغي أن يوضع في الاعتبار عند صياغة النص أولا وآخرا لأن العمل الفني قد يكون مكتنز الفكرة، بليغ الخطاب لكنه لا يكون ناجحا وبالغا منتهاه بشدّ الجمهور وإمتاعه إلا إذا أفلح في الحفاظ على إيقاع ذلك الخطاب دون حشد الفكرة أو تكديس آليات الإبلاغ الفنّي.3) الشخصيات : الجدول (3)سيقتصر حديثنا عن تقديم الشخصيات وبعض ملامحها ومواصفاتها لكن الأهم من هذا تصنيفها ورصد حركتها عند الاقتضاء من مجموعة إلى أخرى.المجموعة (1) وينفرد باحتلالها «دمنة» بوصفه شخصية محورية وهو : كامل الخلقة لكنه خبيث وفصيح مع أنه صامد في المواقف الحرجة.المجموعة (2) كليلة/ شغبر شخصيتان متعاطفتان معه رغم أنهما تختلفان عنه ولا تمثلان امتدادا له.المجموعة (3) أمّ ا لأسد/ سيّد الخنازير/ الفهد: شخصيات مناوئة لدمنة، تساهم أدوارها غالبا في تأجيج نار الصّراع.المجموعة (4): الأسد/ القاضي/ النمر شخصيات محايدة تتواجد ضمن مجموعة مستقلّة لا تلبث أن تنحلّ عندما ينضمّ أصحابها إلى المجموعة الثالثة لحسم الصّراع بإدانة دمنة وإعدامه.4) في دلالة البنية الفنية ومرجعيتها:بعدما نظرنا في خصائص البنية الفنية سنتوقف عند أهمّ دلالاتها ومرجعيتها مع التأكيد مرّة أخرى اننا بصدد بلورة مشروع نص في خطوطه الكبرى، قابل للمسرحة إذا عرفنا كيف نوظّف تقنيات الكتابة المسرحية فيه. اخترنا التوقف عند ستة عناصر في الغرض هي:1) الحدث يمثّل خطا تصاعديا للصراع الدرامي في الشكل التقليدي المعروف والمتتبع للدراما بمختلف أشكالها التي تختلف مع الشكل الملحمي أساسا.2) البناء الفنّي :هرمي الشكل، في أعلاه شخصية محورية ومجموعتان من الشخصيات في طرفيه ومجموعة محايدة في خطّ الوسط.3) الحوار :مادّة النص حوارية ورغم الطابع التعليمي، يمكن تنقيحه وإعادة كتابته ليوظّف أكثر في دفع الصراع، والملاحظ أن كثيرا من وحدات النص الأصلي قابلة للتفتيت وتفجير بعض المواقف القابلة لمزيد الشحن والدلالة.4) المفاجأة المسرحية(Le coup de théâtre : لا ينكر أحد أهمية هذا العنصر في الحبكة الفنية للنص المسرحي وقدرته على دفع الحدث وإيثار التوتر في ردود فعل الشخصيات فضلا عن ما يضفيه من تلوين فني على إيقاع المسرحية نصّا وعرضا بما يكسره من رتابة ويقلبه من معادلات في ميزان القوى بين الشخصيات المتقابلة في صراع محتدم، خلّف أقنعتها المزيّفة التي لا تصمد طويلا في البقاء بل لا تلبث أن تسقط مهما طال تلوّنها وفي هذه الحال من مسرحيتنا يعتبر الإدلاء بالشهادة بعد كتمانها عاملا مفاجئا يخرج بالموقف من قمّة التأزّم الى الحسم النهائي.5) القضية :وهي مشكلة القضاء بين الجور والعدل أي بين السائد والبديل ومثلما نلاحظ في خصائص البنية الفنية المقترحة، الإلحاح على إبرازها وتوظيف مفردات الإيقاع العام على تحقيق هذا الإبراز من ذلك أن آخر كل لوحة ينتهي في المحكمة والمشهد (14) شبه قضائي رغم أنه لا يدور في أرجائها.6) القضاء :يجسّم الصراع (1) من حيث مقابلة السجن بالقصر/ والتكامل (2) من حيث تواجد البلاط والمحكمة فالتقابل يعقبه كذلك توافق في مستوى الحدث. قبل أن نختم، نؤكد على أن ما قدّمناه لا يعدو أن يكون إغراء بكتابة نص مسرحي بل أكثر من نص أي بحسب ثقافة الكاتب وما يمكن أن تكون له من خلفية معرفية مسرحية أو رؤيا جديدة في مقاربة كتابة نص مستوحى من تراثنا الأدبي ومن أدب الأمثولة التعليمي دون أن يكون النص بالضرورة من المسرح التعليمي. إنّ الشكل الذي اقترحناه، فرضته طبيعة القضية ومادّتها الأدبية كما هي في كليلة ودمنة بيد أنه بإمكان أي كاتب أن يقترح أي شكل آخر مع ما يقتضيه من تصرف في القضية ومادّتها وفق ما دأبت عليه سنّة الإبداع من استلهام مصادر التراث الأدبي وتوليد أكثر من إنتاج حول رمز واحد من رموز هذه المصادر وطرح أكثر من مقاربة لقضية واحدة عالجها أكثر من كاتب. إذا ما عدنا الى التراث المسرحي الغربي خصوصا، نجد أن القضاء كان يمثل واحدة من أوكد قضايا الدراما حتى أنه أطلقعلى نوع منها بكوميديا المحاكم(La comédie des tribunaux، قد نعرض إليها في وقت لاحق من خلال أحد رموزها الرواد الذي ترك لنا نماذج حية من مسرحيات هزلية وهو الكاتب الفرنسي «جورج كور تولين»(Georges Courteline (1858 1929). المعروف بأسلوبه السّاخر من الحياة البورجوازية والإدارية في مسرحه وقصصه. كما يمكن أن نذكّر بعديد الأعمال الدرامية في المسرح والسينما حيث كانت إشكالية القضاء مطروحة جوهريا القضية، مسرحية لطفي الخولي القضية 68، شريط صلاح أبو سيف رواية الحادثة 67 مسرحية وأنا الحادثة، الأولى من تأليف إسماعيل فهد إسماعيل والثانية اقتباس مسرحي من الأصل الروائي للمخرج التونسي المنجي بن إبراهيم وتقديم المسرح الوطني (1984). أما كليلة ودمنة فقد كان مصدر إلهام لأكثر من عمل مسرحي للأطفال وغيرهم، ولعلّ واحد من أبرز أعمال الهواة في المسرح التونسي ونعني به «باب الثور والحمار» كانت أعدته وٍقدّمته بنجاح فرقة الحبيب الحدّاد بباجة. انتهى