سمعتُ وقرأتُ كثيراً عن مسرحية "أوبو ملكا" منذ أن كنتُ طالباً على مقاعد الدراسة، وكانت عندي رغبة هائلة أن اقرأ النص الاصلي للمسرحية أو أن اشاهد المسرحية ذاتها. كم فرحتُ حين شاهدت ملصق المسرحية معلقا في شوارع أمستردام، ليس هذا فحسب، بل ستشترك في تقديمها فرقة أمستردام المسرحية مع فرقة المانية. أخبرتُ صديقي الشاعر بذلك الحلم القديم وأتفقنا على الذهاب معاً. مسرحية "أوبو" أعدها الكاتب الانكليزي"سيمون ستيفنس" عن النص الأصلي "أوبو ملكا" للكاتب الفرنسي الفريد جاري، واخرجها الفنان الالماني "سباستيان نوبلنك". أحدث الفريد جاري، بكتابته "أوبو ملكاً" خرقا جديداً في عالم المسرح في بداية القرن التاسع عشر، وهي محاولة جرئية لخلخة السائد انذاك،على مستوى التجريب وكسر القواعد والقوانيين الكلاسيكية، كما شكلت علامة متميزة في المسرح المعاصر، واعتبرت إنطلاقة جديدة لبداية مسرح العبث، ومفصلا مهما في التأسيس له.
القصة "اوبو" عسكري قريب من ملك بولندا.. جشع ومحب للسلطة، تحرضه زوجته على أن يستحوذ على العرش عبر العنف بمساعدة أصدقائه. في مشهد درامي يحقق "اوبو" رغبة زوجته ويقوم بقتل الملك والملكة، ثم يؤسس مملكتة الخاصة به، التي تقوم على القتل والعنف والجشع، ويدمر كل شئ يشير إلى الحضارة. هذا الانقلاب الذي بدأ مجرد فكرة أو مزحة كأنها لعبة أطفال يتحول على حين غرة إلى حقيقة ويستحوذ "اوبو"على العرش ويصبح دكتاتورا فضيعا، يمارس نظام أرهاب قاس على المجتمع البولوني لا يرحم. وفي معالجة معاصرة للحكاية، تكون نهاية أوبو بتقديمه إلى محكمة دولية بتهمة الجريمة ضد الانسانية. هذ هي فكرة العرض المسرحي "أوبو" لفرقة أمستردام المسرحية بالتعاون مع فرقة "اسن" الالمانية المسرحية، على قاعة ستادس سخاوبورخ في أمستردام.
همهمات غير مفهومة في فضاء مسرحي مفتوح أمام أنظار الجمهور، وسط صمت وهدوء يدعو للدهشة ندخل في جو ورشة مرسم، نشم رائحة اللون، نرى كماً هائلا من لوحات فنية، اطارت فارغة، لافتات وشعارات في مختلف الاحجام حول الحرية وحقوق الانسان والدستور. يتوزع الرسامون في الورشة وهم منشغلون بانجاز مهامهم الفنية تحت إشراف مدير الورشة وهو الملك الاصلي. خطاط يقف على سلم عال من الحديد ظهره بمواجهة الجمهور مشغول بلوحته على الجدار. الملكة تظهر في العرض بهيئة رسامة ترتدي فستاناً اسود طويلا تقف على كرسي تمسك فرشاة طويلة ترسم لوحتها على الأرض.
رسام ينام على الأرض يحتضن الوانه ويرسم لوحته بعناية فائقه، رسام اخر مشغول بتأطير لوحته الكبيرة. ثمة شابة متكئه على الجدار تكشف عن ساقيها منهمكة في قراءة كتاب. تصدر الشابة، وهي ابنة الملك، صوتا مبهما بين فترة واخرى في محاولة لكسر الصمت الرهيب. في كل لوحة تظهر لنا حدة التعابير والالوان والاضواء وهذه هي عناصر الديكور. الملك والملكه وابنتهما والذين سينقلبون عليهم لاحقاً، كلهم في ورشة واحدة يخطون اللافتات والشعارات. أول ما يثير انتباه المتلقي في بداية العرض المسرحي الصمت الطويل الذي لا تقطعه سوى همهمات غير مفهومة. وقد استخدم في العرض بعض الحوارات باللغات الفرنسية، الالمانية، الانكليزية، والهولندية استخداما متداخلاً، ذكياً، مما منح العرض متعة اضافية.
العرض كانت اولى علامات العرض هي الصمت وبلاغته ربما كان الصمت هو دعوة للتأمل لما يحدث بعد قليل! أحد الرسامين، "أوبو"، يستغل غياب الشابة عن مكانها للحظات، فيلطخ باللون الاسود كتابها الذي كانت منهكمة بقراءته. فجأة يصبح الجو محتدما مشحونا بالقلق والتوتر، تشتد فيه الصراعات، همس، مؤامرات. يتواصل العرض بطريقة كوميدية ساخرة، حيث تهمس الممثلة "فريدا بيتورس" في آذن الممثل الشاب الالماني "نيكولا ماستروبيرادينو" الذي يُصبح ملكا على بولونيا بعد أن يقتل مدير الورشة/ الملك الأصلي. يالها من مزحة، نفذها الجنرال الشاب وأعلن الحرب، بكل وحشية. القتل تم التعبير عنه باللون وبتحطيم كل اللوحات الفنية. رسم المخرج لوحته الفنية فائقة الالوان بمساعدة رساميه المحترفين. بالضوء والظل يتابع المتلقي بكل فضول خطوط والوان اللوحة بشغف، لمعان اللوحة يعكس الالوان الحارة والباردة التي رسمها المخرج بحساسية وذكاء. الوان مآساوية غارقة في العتمة واخرى مبهجة. كان هذا الفصل الأول الذي يعج بالحركة العنيفة القاسية وكثافة صورها الشريرة..
الجزء الثاني أما الفصل الثاني فيمثل ذروة الصراع في العرض حين تنصب المحكمة، وتنال القصاص من الديكتاتور أوبو. اتسم هذا الفصل بحوارات مبالغ في طولها بشكل مقصود، ومليئة بالأرقام والنصوص القانونية، بما لا يخلو من سخرية من المحاكمات الدولية، التي تصبح عادة مجالاً يستعرض فيه المتهمون ومحاموهم قدراتهم الخطابية، بينما نرى الشهود، وهم من الضحايا، يحاولون بصعوبة سرد المآسي التي مرت بهم..
حرفية المخرج العالية جعلت ممثليه يتحركون بحرية، وبدا ذلك واضحا من خلال اداء مميز لادوارهم المتنوعة والصعبة بخفة ورشاقة اجسادهم، بكل حرية ودراية. على مدى أكثر من ساعتين قدمت هذه القصة العبثية المرعبة في عرض مسرحي رشيق، شيق، ومخيف، إذ أبتكر المخرج ورشة رسم لرسامين، وملابس للممثلين حديثة، في فضاء مفتوح تؤطره الجريمة، في هذا المكان تنطلق الحرب الشاملة. شخصية البطل الدكتاتور "اوبو" قدمه المخرج بطريقة كاريكاتيرية، على هيئة رسام ينقذ الجريمة بالألوان وبإطارات اللوحات. في نهاية العرض ينتهي الدكتلتور إلى مصيره التراجيدي، يجرد من ملابسه ومملكته ويرمى في السجن وحيدا بائسا، جالسا على الكرسي وسط المسرح داخل بقعة ضوء تنطفئ تدريجيا، بينما يغادره الجميع.
صفق الجمهور طويلا عند نهاية العرض. هل استمتعت بالعرض؟ قلت لصديقي، فرد عليً: لا تقل هل استمتعت بل قل ماهو رأيك؟ وعرفت انه معجب جدا بالعرض. خرجنا من العرض ونحن نشعر ان الالوان تطاردنا ونحس لهاث الممثلين قريبا منا، والنصوص القانونية الطويلة ترن في الذاكرة، واتفقنا معا ان هذا العرض لم يذكرنا بمسرحيات سبق وان شاهدناها. * صالح حسن فارس: مسرحي عراقي يقيم في أمستردام http://www.rnw.nl/arabic