إنّ منزلة الإنسان على الأرض، كإشكالية وجودية كانت ولا تزال مطروحة على الممارسة المضنية للفكر والتساؤل. الفكر كإرادة لوعي يلاحق التّماسك والمعنى، بذلك العناء الذي يراود الأشياء والتمثّلات وأحوال التمزّق والإنفصام ويناشدها مُقامَ سعادة وموطن سكينة. يحدث أن يضرب الإنسان في الأرض مسكونا بطوابق عمارته القيميّة : حُريّة وعدلا وكرامة وسيادة على حيز آلامه وآماله الصغيرة بذاتيتها وحميميتها ورحبة بانتاجعها الموضوعي في اشتراك الذوات intersubjectivité. يضربُ الوعي الذي يشقى بالتزامه، في صخر المفاهيم وهلامية الوقائع. يضرب المثل والأمثال. ويضرب عن الانخراط في تفاهة ترف الإشباع اليومي، ليتدبّر إقامة جديرة بفكّ حصارات اللامعنى واللاموقف ولامبالاة أغنية: «ابعدْ عن الشرّ وغنّي لو؟!..».. والعدم. ولمّا كانت حتمية قوانين علوم الأرض، قد أثبتت أن ظاهرة تغاير التأقلم مع مبدإ البقاء للأصلح الداروينيّ هو من اختلاف هندسة الاستعمار والسكن، فقد اعتادت شرنقة «المجتمع الحالم» على الاقامة فوق شجر توت اللغة، منشغلة بنسج متأنّق لستائر بيت السلطان، بينما يقيم فراش الشعر في هالات أنوار الحقائق والحرائق، أما أثرياء مجتمع دافوس فلهم وحدهم امتياز سكنى ا لعالم بأبعاده الثلاثة وكنسه. فأين يا تُرى يتمظهر اسمُك وعنواني؟ وعلى أي جدار سيخطّ صعاليك هذا الزمن ومهمشيه ومجهوليه وشعوبه التي تعيش خارج دائرة صفر عتبة الفقر، معلّقاتها وملاعقها التي استحالت بيتا للعنكبوت؟! لقد تغلّب التطبّع على الطّبع، من فرط الجلوس الى موائد الأخبار المطبوخة في محلات «ماك دونالد» ومن كثرة تناول رقائق الملفات المعدّة بطحين مزرعة «كراوفورد»، فأصبح من الطبيعيّ أن يشاهد نسرا عربيا يتخبّط في أسر قصر يُطلّ بشرفاته على متاريس أكياس رمل التلاشي العربي وأمواج خوذات الإبادة الخضراء. ومن العادي جدا أن يقيم نصف شعب في مخيمات مؤقتة باستمرارها، ونصفه الآخر بين فكّي جدار مرشح مؤقتا للتمدّد. أحياء يسكنون «مدينة الأموات» وأموات يبحثون عن مقابر في الفلّوجة. ملايين البشر يقيمون في مزابل الكرتون والصفيح. وآخرون في بلدان الرخاء يلتحفون المجاري التحتية ومنهم من لا إقامة محددة له! تقيم صحافة «العالم الحرّ» الدنيا ولا تقعدها عندما تموت قطة مدلّلة وتُحرم مدن ثكلى من تشييع جنازة شهيد لم يبق من جثمانه غير مسامير كانت تشدّ عظامه المهشمة. قد يكون كل هذا الذي يحدث، مقدمات وأقساط إيداع لاحتجاز غرفة تفتح نوافذها على شاطئ للسلام المنشود، سلام قد لا يصل لكثرة ما يصادف في طريقه من المجازر والمقابر. ربّا نعتب على العرب طمأنينة غفوتهم تحت سقف خبرة الأزمان وعراقة المجد وبعض ما أمّنوا عليه من بنايات جاهزة في جزر «الفراديس المالية»، لكنه من حقنا أيضا أن نعجب لهذا الرّهط من النزلاء المتفوقين عدوانا كيف يتلبّسون بعشق العيش داخل الدبابات؟! وردت هذه الصورة في إحدى قصائد محمود درويش. يأكلون وينامون، يَقتلون ويُقتلون، يتبوّلون ويحلمون بخلاص الدّجال الذي يأتي في آخر الزمن. يهدمون القصور والفنادق والمعابد والمنازل. يفعلون كل ذلك من أجل أن يضمنوا إقامتهم في فسحة دبّابة؟! لمن يريد أن يسترشد أكثر حول مزايا سكنى الدبّابة نقول: ان هذه الأخيرة، خاصة اذا كانت تنتمي الى آخر صيحات المركب ا لصناعي العسكري الأمريكي، فهي لا تحتاج الى شهادة ملكية للأرض التي تدوسها لأنها تملك امتياز Franchise الحيازة والاستيلاء. وهي لا تخشى منافسة الدّور والقصور الفاخرة لأنها بكلّ بساطة يمكن أن تمحوها بجرّة قذيفة. ولساكن الدبابة حرّية اختيار المناظر الخلفية سواء كانت اطلالا على البحر أو الصحراء أو الجحيم. كما أن الحياة في رحاب الدبابة تخلو من الازدحام والتكاثر العشوائي لعدد أسرتها/ أسراها لأن سكانها متماثلون جنسيا. وهي معفاة من طلبات الزوجة وخصوماتها بعد أن غدا وجودها مقتصرا على رمزية صورتها ووداعة رسائلها، غير أنه من شروط سكنى الدبابة أن لا يفكر النزيل في الخروج والابتعاد، وأن يألف التعايش مع جيران دائمين: الخوف والحقد والموت. وحتّى تتفهّم أكثر مناخات عالم الإقامة في دبابة لك أن تقرأ نصّ هذه الشهادة الحيّة من وصيّة ساكن سابق لها: «إسمي: رُورديغُو دي لاسيرّا. مشروع مواطن أمريكي، قضيت أجمل أيام شبابي في دبابة. أقدّم اعتذاراتي لكلّ الذين قتلتهم بلا ثأر لي عندهم. واحتراماتي الى الذين قاتلوني بلا دبابة وقد كانوا ملتحفين بعطف الأرض التي يقفون عليها. من أكثر أمنياتي صدقا، أن أشرب قهوة ساخنة في فنجان من الدفء العائلي. وأن أمسح على رأس طفل تأخّر بين الرّكام. وأن تتحوّل الدبابة جرّارا والمدفع محراثا والقنبلة سنبلة» عنواني : ركام الدبابة رقم 09/4004 بلادي: مقبرة مجهولة.