أستاذ محاضر بالجامعة التونسيّة ما ظنّ المنكوبون في تونس والمهجَّرون في المنافي والتائهون في شِعابها أنْ شمسا يمكن أنْ تُشرِق ذات يوم بلا غيوم. فقد ابتُلِيَ الوطنُ بسلطة فاسدة تجمّعتْ حِرَابُها على نحو غير مسبوق من جشع السُرّاق، وتواطؤ نُخُبٍ تَلُفُّ نفسَها بشعارات العقلانيّة والتنوير، وطائفةٍ من الجامعيّين البؤساء الذين وقع تشغيلهم مستشارين لرؤوسٍ ليس فيها إلاّ حبُّ البقاء وإنْ على أشلاء الجوعى والمحطّمين والبطّالين وعلى أجساد المعذّبين في مغاور التعذيب، وهيآتٍ ومنظّمات "مدنيّة" رجاليّة ونسائيّة احترفتْ التصفيق، وأعدادٍ من الناس امتَهَنوا الوشاية وكتابةَ التقارير، وأجهزةٍ أمنيّة مَهَرتْ في امتهان كرامة الوطن وتفنّنتْ فيه. ولكنّ الوطنَ تنفّس واليأسُ مُطْبِقٌ. فقد قرّر التونسيّون أنْ ينتفضوا على سلبيّتهم وعجزهم وصمتهم الثقيل. وقَدَّم بعضُهم حياتَه قربانا في مَحارِق النار والرصاص. واستطاعوا في وقت قصير نسبيّا أنْ يثوروا على الاستبداد وأن يُطيحوا ب"جمهوريّة" بن علي الطغيانيّة وزبانيّتها في احتفاليّة تاريخيّة نادرة وإنْ تَضَرّجَتْ بالدماء. وسفّهَتْ ثورتُهم كثيرا من عقول الإستراتيجيّين وأذهلَت السياساتِ الدوليّةَ المطمئنّة إلى هدوء هذا الجزء الصغير من جغرافيّة العالَم. ودخل الوطن في سباق ضدّ الساعة لتحويل دماء الشهداء ونضال الأحرار إلى أفق سياسيّ جديد. وكان النجاحُ ثلاثيَّ الأبعاد: قانون للانتخابات يقطع كلّ إمكانيّةٍ لعودة لَونٍ واحد تحت قبّة البرلمان، وهيأةٌ وطنيّة للانتخابات مستقلّةٌ عن نفوذ الإدارة وخاصّة وزارة الداخليّة، وانتخاباتٌ لم يُخالِطْها ما يكدّر وجدان الشعب. وكان كلّ ذلك مَقْطَعًا أوّلَ من مشروع تونسالجديدة. وهو مَقْطع مُهمّ لا لأنّه تأسيسيّ فقط، وإنّما لأنّ الشعبَ اختار كما لم يخْتَرْ مِنْ قبْلُ. اختارَ مرّتيْن في وقفة واحدة: اختارَ أنْ يزدحم أمام مَكاتب الاقتراع مُصِرّا على تحويل اهتياج الشارع إلى حالة مدنيّة وتشريعيّة نبيلة، واختارَ الجهةَ السياسيّة التي يعتقد أنّها قادرة على تحقيق مطالبه الماديّة والروحيّة. ولمْ يكن الاختيار سهلا ولا مُريحا: لقد جَنّدَتْ جماعاتٌ محدودةُ العدد نفسَها أو جُنِّدَتْ، فركِبَتْ الموجةَ العالية في خطابِ الثورة وهي مستلقيةٌ في كراسيِّها الدوّارَة داخل الشاشات من خلال مؤسّسات إعلاميّة مُوَجَّهَة وعبرَ منابرَ خطابيّة ومواقعَ تنفيذيّة في الدولة استيقظَتْ من سبات فوجدتْ نفسها فجأةً تُنظِّرُ للثورة وترسم لها الأهداف القريبة والبعيدة. كان صوتُها يرتفع عاليا زاعمةً أنّها عقلُ الثورة ولسانُها. وكانت تُضرمُ النار في حرب ما سقطَ مِنْ أجلها شهيدٌ وما التاعتْ بسَبَبٍ منها أمٌّ لفَقْدِ عزيز. واستبدلَتْ عدوَّ الشعب- وما نظنّ أنّه كان لها ذات يوم عدوّا- بعدوٍّ تصطنعه اصطناعا وتقدّمه في ضجيجها وفوضاها على أنّه عدوّ الشعب الجديد. تقدّمه وفيه كلّ المَخازي والعيوب: فهو، كما تحبّ أنْ تُسَوِّقَه، ضدّ العقلانيّة وضدّ الحرّيّة وضدّ الديمقراطيّة وضدّ المرأة وضدّ السينما وضدّ المسرح وضدّ المزود وضدّ الرقص وضدّ نسمة... وضدّ الحياة. وتَسيّجَتْ هذه المجموعاتُ في رُكْن ضيّق مَلَأَتْه تخويفا من التيارات الدينيّة واستهجانا لِما يُمْكن أنْ تقدّمه من أفكار وبدائل. ووجدنا في خطاباتها كلَّ ما يجعلنا كأنّنا في عُقْرِ مَملكة بن علي. لا شيء تغيَّر. كان بن علي يرهبنا بخطاب رسميّ في مناسبات "وطنيّة" معلومة ونعرفها مسبقا. وهولاء المُتَلْفَزون الجُدُد كأنّهم كانوا أشدَّ منه نشاطا في زرع خطاب التفتين والبغضاء. فما تركوا لحظة تضيع. إنّهم يَخرجون علينا باستمرار مَقيت وفي ألسنتهم ترهيب وعنف وإقصاء. ولعلّهم ظنّوا أنّ مَنْ فرّ ولَعناتُ الشعب تلاحقه تَرَكَ البلدَ ولا شيء فيه إلاّ هُم. مِلْكِيّةُ وطنٍ وشعبٍ ومستقبلٍ يمْكِن أنْ تُسَجَّلَ "في دفتر خانه" باسمهم. ولمّا قرّر الشعبُ أنْ يُسقِط من حسابه الانتخابيّ أولئك الخارجون عليه من رماد ثورته، فلأنّه كان يعلم أنّهم ما كانوا له يوما زعماء، وأنّ وجوهم الطريّة التي يُطلّون عليه بها من جهات الوطن الأربع لم تنجح في إخفاء كراهيّة هدّامة لكلّ مَنْ يخالفهم الرأي. الديمقراطيّة عند هؤلاء لا تكون ديمقراطيّةً إذا كانوا من ثُقُوبِ الصناديق ساقطين. والحرّيّة عندهم لا تكون حرّيّةً إذا أفْسَحوا لغيرهم مقعدا يقول وهو فيه إلى جانبهم ما لا يقولون. والعجيب في الأمر أنّهم يَنسِبون أنفسهم إلى التيّار الحداثيّ التقدّميّ. ولا ندري على وجه التحديد هل يستحضرون شبكةَ القيم التي على أساسٍ منها يمكن الانتساب إلى الحداثة والتقدّم أم ما يرفعون لا يزيد عن شعارات جوفاء. نقول هذا لأنّ القِيَم، في ما نعلم، ليست عناوينَ تُعَلَّقُ على أبواب مَحَلاّت السياسيّين ودكاكينهم. القيمُ ليست بضاعة للبيع والتملّك، وليست مادّة للإشهار السّلَعيّ. القيم فلسفةٌ وثقافة وانتظامٌ عقليّ ووجدانيّ في دلالاتها وأبعادها. والحداثة، في ما نعلم، نمطٌ من التفكير والعيش والسلوك تنفصل به شروطُ الوجود الحيّ والراهن عن مُقتَضَيات وجودٍ قديمٍ فَقَدَ لأسبابٍ موضوعيّة جدارتَه بالاستمرار في مَدّ المجتمعات بما به تحيا حياتها. إنّها إذن وعيٌ أصيلٌ مَبْنيّ على ما يلزم من الدلائل القاطعة بأنّ الجهة المرجعيّة التي كانت تُزوِّدُ هذا المجتمع أو ذاك بآدابه وفنونه وعلومه وأخلاقه وقوانينه انتهتْ صلاحيّتُها. وإنّها إذن القدرةُ الذاتيّة على إنتاج ما به يحيا المجتمع حياةً جديدة. والحياة الجديدة، في هذا السياق تحديدا، لا تُباعُ ولا تُشْتَرَى. نقصد: إنّ لكلّ مجتمع آفاقَه الخاصّةَ لإنتاج حداثته الخاصّة. ولهذا نقول: إنّك تستطيع أنْ تجد في الأسواق العالميّة ما لا يُحصَى وما لا يُعَدُّ مِمّا هو معروض للبيع.. حتّى ذِمَمُ الرجال تستطيع أنْ تراها سلعة رخيصة. ولكنّك لن تجد حتْما "حداثةً" معروضَةً للبيع ولا "تقدّمًا" في قِرطاس تشتريه بثمن معلوم. فَوَاهِمٌ إذن مَنْ يحدّثنا عن الحداثة في أبعادها الكونيّة، لأنّ الكونيّة في حدّ ذاتها ما هي إلاّ محلّيّةٌ فاضتْ عن مجالها وحدودها. ولا يَفيض المحلّيّ إلاّ إذا كان محلّيَّ "الغالب" بالعبارة الخلدونيّة. والغالب يأبَى عليك أنْ تشاركَه في الأمر. يفرض عليك أنْ تَتَعَمَّدَ بماء حداثته "المبارَك" إنْ رَغِبتَ في أن تكون جزءا من كونه. والذين يروّجون اليوم في وطننا لإيديولوجيا الحداثة والتقدّم دون استحضار المعطيات التي ذكرنا منها شيئا، إنّما يروّجون لجهل ليس من بعده مَزيد. إنّ أمّةً لا تُبْدِعُ حداثتها، لا يمكن أن تكون الأصواتُ النشاز فيها والمبشّرةُ بحداثة لا نعلم أصلها ولا فصلها إلاّ أصواتَ غشّ وتدليس. وإنّ جهاتٍ باسم الحداثة والتقدّم إذ تعملُ على تحويل ثورة شعبٍ إلى معركة خاصّة بها تحت هذا الشعار أو ذاك، لنْ تحصد إلاّ مزيدا من العزلة والغربة. والشعب وقد اختار.. فمَن اللائق احترامُه وإجلاله. هذا الشعب الذي بدمائه انفتحَتْ بوّاباتُ الخطابة "للحداثيّين" و"الديمقراطيّين" و"التقدّميّين"، ولا نحسَبُ أنّها كانت مُغْلَقَة في وجوههم من قَبْلُ، أصبح فجأة، وقد اختار مَن اختار، جحافلَ من الأمّيّين الذين تُشتَرى ذِمَمُهم ب"خراف العيد" وب"أموال الشيخ القطريّ". أهكذا يُكَافَأُ هذا الشعب العظيم؟ أهذه هي الديمقراطيّة التي أوهمونا أنّها عقيدةٌ لهم لا يخونونها؟ كَمْ تمنّيْنَا أنْ يفرح أباطرةُ الديمقراطيّة لفرحة الشعب، وكمْ تمنّيْنا أنْ نجد في إعلامهم تواضعا ينمّ عن عقيدتهم الديمقراطيّة، وكم تمنّينا أن تستقبل مقرّاتُ الإعلام الفائزين بثقة الشعب لتهنئتهم ومحاورتهم، وكم تمنّينا أنّ يكفّ محترفو الفتن عمّا يحترفون. لقد فعلوا الأفاعيل ليحترق الوطن في سيدي بوزيد والقصرين والمظيلة وأم العرائس... إنّ وَطنًا أنجَبَ شعبا يفرض اليومَ احترامَه على العالَم، لا يمكن أنْ يحترق أبدا. وإنّ مؤسّساتِ الشعب التي تحوّلتْ بعُودِ ثِقابٍ هباءً منثورا لنْ يزداد بها النافخون في النار إلاّ تقزّما وصَغَارًا. الوطن.. هذا الوطن الذي فيه نحيا ماردٌ جبّار، فأحِبّوه واحذَروه. وأمّا الصِّغَارُ.. فسيظلّون صغارا ما لمْ يتعلّموا كيف يُحْتَرَمُ شعبٌ عظيم. وأمّا الوطن.. فسيظلّ كبيرا مَا ظلّ فيه شعبٌ عظيم.