"لك الله يا تونس كم أنت جميلة حين تصبحين على محبة..وحين تقبليننا...سعادتك تكاد تئن بنا..وفرحك يغشى العالم بصوت أحرارك..تقودين الشمس إلى مقاديرها..أستغفر الله إن نطقت بإسمك كفرا..ولكن المقادير تشاء إذا شاء شعبك..فكم أنت عظيمة..بالحب و الشمس و الصبح..وأنت حبيبتي فكفكفي دموعك،وغادري حزنك..لا ترتجفي..نحن أبناؤك..نحن أحفادك..نحن أنت...مهما آختلفنا؛ مهما تباعدنا؛ مهما تصادمنا؛...نحن أنت" تبادرت إلى ذهني هذه الكلمات التي كتبتها ..على حائط الفايسبوك.. ذات يوم من أيام ثورة تونس ..عندما كانت تونس تتألّم و ترتجف خوفا من مصير مجهول ..عندما كانت رائحة الموت في كل مكان و صوت الرصاص وقنابل الغاز المسيل للدموع تحاول أن تسكت أصوات الأحرار الذين واجهوا الظلم بصدور عارية وعزيمة لا تفلّ في انتفاضة وطن تغنى شاعره بإرادة الحياة لدى الشعوب فكان أولى بشعبه أن يكون مريدا للحياة ..ودفع في سبيل ذلك أرواح شهداء اختاروا الموت بعزّة على الحياة بمذلّة.. فكانوا مصابيحا أنارت طريق الحق و الحرية لملايين توّاقة لما ظنّت أنه عزيز على أوطاننا و هو أن هذا «الشعب يريد».. قلت تبادرت هذه الكلمات إلى ذهني و نحن نعيش هذا الحدث التاريخي الذي لم تعرفه تونس على مدى تاريخها وهو انعقاد اولى جلسات المجلس الوطني التأسيسي في 22 نوفمبر الماضي.. و الذي يأتي كثمرة انتخابات حرة ونزيهة شهد بها البعيد قبل القريب ..والجميل في الأمر أنه برغم فسيفسائية المشهد السياسي في تونس واختلاف الأيديولوجيات بين الإسلاميين والعلمانيين ..واليمين واليسار.. والليبيرالي و الشيوعي ..و الراديكالي و الوسطي ..الخ والذي ترجمه تواجدهم داخل المجلس التأسيسي إلا أنهم وجدوا مشتركا أدنى يلتقون حوله وهو ضرورة إنجاح المرحلة القادمة و التي هي الأهم إطلاقا لإرساء أولى دعائم الجمهورية الثانية والمرور من الوضع الإنتقالي غداة نجاح الثورة وفرار المخلوع.. الذي شابته الإضطرابات و الإنفلاتات ..و سياسة الصراعات السياسية و الحزبية ..المعلنة منها و غير المعلنة ..والتي زادتها المطالب الإجتماعية و المصالح الفئوية حدّة ..حتى كادت تعصف بالبلاد في غياب الشرعية التي جعلت الحكومة «المنتهية مهمتها» تعمل على صفيح ساخن و تعتمد الترغيب حينا.. بالوعود بالإستجابة للمطالب ..و بالترهيب حينا آخر بالضرب بقوة على يد كل من تسوّل له نفسه المسّ بالأمن أو بالأقتصاد..و هي على رأي «ميكيافيللي» حكم الحاكم بيد من حديد في قفاز من المخمل .. و بغضّ النظر عن تقييم مدى نجاح الحكومة «المنتهية مهمتها» في ذلك أم لا ..وبرغم بعض الهنات التي شابت أداءها ..و ربما حتى بعض الفرص التاريخية التي أضاعتها على البلاد طوال 9 أشهر كان من الممكن أن تسارع فيها إلى معالجة بعض الملفات ذات الأولوية..إلا أن مايحسب لها فعلا أنها على الأقل كانت في مستوى وعودها وأوصلت البلاد إلى إجراء الإنتخابات في موعدها ووفّرت لها كل الإمكانيات الممكنة ماديا و لوجيستيا ..و وقفت على الحياد في كل أطوارها وعلى نفس المسافة من الجميع في تجسيد فعلي لإرادة الشعب ..و ختمت كل ذلك بتقديم استقالتها ..بأسلوب جد حضاري..إلى رئيس الجمهورية المؤقت «المنتهية مهمته» أيضا..و هو حدث وإن كان منتظرا و منطقيا إثر الإنتخابات..إلا أنّه حدث تاريخي بكل المقاييس لم نتعود عليه في البلدان العربية التي لا تسلّم فيها السلطات إلا بحالتين لا ثالث لهما إما الإنقلاب أو التوريث..لكل هذا لا نملك إلا أن نقول لهم شكرا.. لقد أتممتم الرسالة و أدّيتم الأمانة و يكفيكم فخرا أن التاريخ سيسجّل لكم ذلك في صفحاته وهو الباقي و المناصب إلى زوال.. لكن كل من يظن أن انعقاد أولى جلسات المجلس التأسيسي والحكومة المنبثقة عن نتائجه وكذلك تسلّم رئيس الجمهورية الجديد مهامه هو في حدّ ذاته تحقيق لأهداف الثورة واستجابة لتطلعات الشعب التونسي فهو واهم..فكل هذا لم يكن إلا الخطوة الأولى في مسافة الألف ميل ..و مازالت أطنان الملفات و الوثائق تنتظر من ينفض عنها الغبار الذي تراكم عليها على مدى سنوات.. ومازال المواطن لم يقطف بعد ثمار ثورته الفعلية ..و لعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا أن الجميع قد استفاد من الثورة..وخاصة الساسة الذين ظفر كل منهم بمكان في المشهد الجديد و كانوا أوائل الفائزين خاصة أن الكراسي تسع الجميع بين سلطة ومعارضة وحتى من لم يحالفه الحظ فقد و جد في وسائل الإعلام وفي صالونات التلفزيون مكانا.. إلا المواطن البسيط المثقل بهموم يومه و الباحث عن معنى التغيير الفعلي في مؤشرات الأسعار الملتهبة..و في الأرقام المفزعة حد الارتعاد لنسب البطالة ..و من الصيحات المتعالية هنا و هناك بأن البلاد على شفير هاوية وأن نسبة النمو تقارب الصفر وحتى المستقبل لا يبشّر بخير ..فأصبح المسكين يلتفت يمينا و شمالا و كأني به قد أصبح متهما.. ويحاول بشتى الطرق أن ينفي التهمة عن نفسه ويتوارى في الركن مكتفيا من الثورة بالكلمات الرنانة والشعارات المرفوعة و الحرية الموعودة.. رغم أنه عندما يغلق على نفسه باب بيته مساء لا يسطيع أن يأكل شعارات أو يشرب خطبا ووعودا..و فاتوراته التي تأبى إلاّ أن تأتيه مجتمعة تظلّ تنظر إليه شزرا أيّاما و أيّاما وهو لا حول له ولا قوّة...و ليس له إلا أن يحلم.. والحلم مشروع..نعم إنه حلم جميل..و من منّا لم يقف إجلالا و احتراما لهذا الوطن العظيم يوم تردّد النشيد الوطني عاليا تحت قبّة البرلمان ..و اجتمع الشمل والتقى بإرادة الشعب لتجد الديمقراطية..أخيرا..لها عنوان في وطننا.. و لكن ألا يكتمل جمال هذا الحلم ..بتحقيق الوعود..والإلتفات قليلا إلى هذا الشعب الصّبور..ألم يحن للبسطاء و قت حصادهم؟ ..أم كتب عليهم فقط أن يزرعوا؟ و مهما اختلفنا ألا نستطيع أن نكون جسدا واحدا.. وحلما واحدا ..في بناء وطن يسع الجميع إلا من إرتضى لنفسه غير ذلك؟..و لتصرخ الدماء في عروقنا فعلا ..أن نفاخر بوطننا الأمم..إنه حلم جميل ..فرجاء رجاء ..لا توقظونا منه بكابوس مزعج..و لنلفظ الدكتاتورية إلى الأبد و نقطع قطعا نهائيا لا رجعة فيه مع الماضي بكل آلامه و بكل ظلامه.. وليكن المستقبل شمال بوصلتنا.