الوطن العربي... وتآكل الأطراف :حسن حنفي تكون نهاية الكائن الحي عادة بإحدى طريقتين. إما بشلل الأطراف وتآكلها وضمورها وانكماشها وتقلصها فيتوقف المركز عن الحياة، أو بشلل المركز وسكونه فتفشل الأطراف، بصرف النظر عما إذا كان هذا المركز القلب أم الدماغ. وفي حالة الوطن العربي يُخطط لنهايته بالطريقتين معاً، تآكل الأطراف حتى يموت المركز، وسكون المركز فتفشل الأطراف. فالأطراف تموت قبل المركز كما هو الحال في أمراض تآكل الأطراف وسقوطها والشلل. وأحياناً يموت المركز قبل الأطراف كما هو الحال في السكتة القلبية. وفي حالة الزواحف قد يظل الذيل حياً حتى بعد انفصاله عن الجسد كما هو الحال في "البرص". ومن هنا أتت الأمثال العامية "يموت البُرص وديله بيلعب" و"يموت الزمار وصباعه بيلعب". وقد تحدث القرآن الكريم عن الطريق الأول، تآكل الأطراف، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)، وتأكيد ذلك مرة أخرى في (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)، مرة في الماضي، ومرة في الحاضر، سُنة ثابتة من سُنن الكون والتاريخ. وهذا ما ينطبق على الوطن العربي. إذ تتآكل أطرافه من الشرق والشمال والجنوب والغرب، أي من جهاته الأربع من أجل حصار قلبه وعزله عن محيطه العربي. فيتوقف القلب بعد سقوط الأطراف. فمن الشرق يعاني الطرف العربي تحت أثر الهجرات الآسيوية من الشرق. فزادت أعداد المهاجرين الآسيويين على حساب التوازن السكاني. ويخشى أن تتأثر اللغة العربية بعد أن أصبحت الإنجليزية هي اللغة الغالبة في كثير من الجامعات والمعاهد العليا، واللغات الآسيوية لغات موجودة أيضاً في السوق وفي بعض مظاهر الحياة اليومية في الشارع. ويأتي التآكل من الشمال من تركيا منذ الثورة الكمالية والمد القومي وخطورة ذلك على شمال العراق في كردستان العراق الذي تتنازعه النزعات الكردية والتركية والعربية. الخطورة على كركوك والموصل والسليمانية كبرى مدن العراق في الشمال، وأن تحذو حذو ديار بكر في شرق الأناضول وأنطاكية ولواء الإسكندرونة الذي ضمته تركيا إليها كلية. ولم تنسه سورية حتى الآن. وتعتبره أراضي سورية محتلة. صحيح أن حسن الجوار بين العرب والأكراد والأتراك في تقدم مستمر. وكلهم مسلمون سُنة، ولكن المد القومي التركي ما يزال قوياً مثل المد الإيراني. والدولة الوطنية هي الحامل للهوية، وليس الدين أو العقيدة أو التراث المشترك. وقد دخلت الألفاظ التركية في اللغة العربية كما دخلت الألفاظ العربية إلى اللغة التركية منذ مئات السنين منذ الفتح التركي وامتداد الخلافة العثمانية على مدى قرون. صحيح أن العالم الإسلامي متعدد اللغات، ولكن تظل اللغة العربية هي القاسم المشترك بين الشعوب. فهي لغة القرآن والعبادة. وهي ليست مرتبطة بالجنس العربي بل باللسان العربي. فليست العروبة بأب أو أم. إنما العروبة هي اللسان. فكل من تكلم العربية فهو عربي مثل صهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وبلال الحبشي. العربية هي لغة الأشراف في أواسط آسيا. ويتم التبرُّك بالعرب لأنهم آل البيت. وأول من حملوا القرآن. والأزهر الشريف كعبة العلم للجميع. وقد يأتي تآكل الأطراف من الجنوب، من أفريقيا جنوب الصحراء في كل البلاد التي شمالها عربي وجنوبها زنجي مثل السودان وتشاد ومالي، أو التي هي في كلها أو معظمها زنجية مثل زنجبار أو الصومال التي تحيطها الحبشة من الغرب والمحيط الهندي من الشرق. ويحدث نفس الشيء في موريتانيا بين العرب في الشمال والزنوج في الجنوب حتى حدود السنغال. وقد يتحول التقابل العرقي إلى تقابل ديني، مسلمون في الشمال ومسيحيون في الجنوب. وقد يتحول إلى تقابل ثقافي حضاري، متخلفون في الشمال ومتقدمون في الجنوب. فالغرب يساعد الجنوب للتبشير ولتمزيق الدول، وبعض العرب لاهُون في خلافاتهم، ومشغولون بالصراع الحزبي على كراسي الحكم والحفاظ على السلطة. وقد يأتي التآكل من الغرب، وأثر الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط على الضفة الجنوبية لغوياً وثقافياً وحضارياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. فبالرغم من مغادرة الاستعمار الفرنسي دول المغرب العربي الثلاث، تونس والجزائر والمغرب، إلا أن الفرنسية مازالت هي اللغة المزاحمة للغة العربية في التعليم والتجارة والرسائل الرسمية في الدواوين. تسرب كثير من ألفاظها إلى لغة الحياة اليومية على كل المستويات، لا فرق بين النخبة والجمهور، بين الخاصة والعامة. والأخطر هي الهجرات التي أصبحت بالملايين في دول أوروبا تنتج عنها أجيال جديدة عربية فرنسية أو ألمانية أو هولندية أو سويدية. والحجج متوافرة: القرب الجغرافي من الشمال، والبُعد الجغرافي بين المغرب العربي والمشرق العربي، أو إمكانية العمل في الشمال والسعي إلى الرزق ووفرة المال في الشمال أكثر من الشرق. وقد تتغلب حتى لدى بعض غلاة النزعة المتوسطية الهجرة لطلب الرزق في الشمال على نزعة التطلع إلى المشرق العربي. ثم لا يبقى للعرب إلا مصر والحجاز والشام. الشام امتداد شبه الجزيرة العربية، ومصر امتدادها أيضاً عبر سيناء. وبالتالي ينحصر العرب في شبه الجزيرة العربية حيث أتوا إلى دول الجوار شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فاتحين وغازين في عصر الفتوحات الأول. أمة عربية بلا أطراف ولا توسع بعد أن حاصرتها لغات وشعوب وثقافات ومصالح أخرى. ثم تدور الدائرة على المركز في مصر والشام بفصل الجسد عن الرأس بخلق إسرائيل بينهما. فتقطع الأوصال. ويعيش العرب في دولتين. الأولى في الشمال والثانية في الجنوب. ثم يطغى التوسع الإسرائيلي عليهما حتى تبتلع الصهيونية ما تبقى من عروبة المركز. ثم تدور الدائرة على مصر وبث الفرقة بين المسلمين والأقباط، وإثارة النزعات العرقية بين البدو والحضر، والبحراوي والصعيدي الذي حماه "مينا" بتوحيد القطرين، الشمال والجنوب، وخلق معارك حدودية بين مصر والسودان في حلايب وشلاتين، ومصر وليبيا في منطقة الجغبوب، وبين مصر وفلسطين في مثلث العوجة. وتصبح إسرائيل هي الدولة العظمى في المنطقة بلا حدود جغرافية أو اقتصادية أو ثقافية متعارف عليها، وبحيث تبتلع كل شيء، متى شاءت. ومع ذلك، التاريخ مد وجزر. وكما خرج العرب أول مرة من شبه الجزيرة العربية حاملين رسالة التوحيد، ومنتشرين في الأطراف، فإنهم قادرون على الانتشار مرة ثانية لحماية الأطراف من الانجذاب والاستقطاب حول ثقافات وقوى أخرى. تستطيع العروبة أن تنتفض من جديد كما انتفضت ضد الاستعمار، حفاظاً على هويتها من التغريب في حركة مضادة لتآكل الأطراف وضخ دم جديد إليها من القلب في مصر والشام، بعد أن يستيقظ القلب الوسنان، ويصحو من جديد كما صحا أيام غزو الصليبيين وهجمات التتار والاستعمار الغربي الحديث. (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).