كنت اسأل ،فيما مضى من عقود ،أين تونس ، أين هذا البلد المعطاء، الذي سكبت على أرضه وترابه الدماء، وأين سقيت أشجاره، زيتونه وقمحه ونخله، بالدموع والماء.قيل لي،اسأل الحربة عنه، فهي تؤنسه ،وتؤسس له المجال الخصب، الذي فيه ينمو، وعليه وعلى مفارقه يبني نماذجه، ويتعلم. على مر تاريخه القديم ،البعيد والقريب ،كان لهذا البلد المطل على الآفاق ،على الماء من الشمال والرمال من الجنوب ، المنبسط كانبساط راحة يدي عروس محناة،في ليلة فرحها الأولى، يُغَنَى لها، وتعزف الإلحان من اجل سؤددها، وتمنيا بحالة ولادة جديدة، بحياة جديدة ،وبمسار جديد، في منظومة تمتزج فيها الذات والإرادة والتطلع إلى الأسمى، وتحكمه آليات الحرية الحقيقية ،التي توفر الفضاء الملائم ،للنمو والتفاعل والتدافع. من جهة الغرب ،على مرمى البصر ،على خطى بصيرة عقبة، يجد الوطن ،من يسنده زمن الشدائد والرخاء ،من جزائر ومغرب أقصى ،إلى حدود الأطلس . وله في الإرث والموروث المشترك معهم، ما يجمع تطلعاتهم، من عقبة إلى حسان إلى ابن نصير إلى ابن زياد ،وإلى من على رؤاهم أشع الأندلس، إلى الأمير عبد القادر وإلى المكافح عبد الكريم الخطابي والمناضل حشاد. من جهة الشرق، يمتد الحلم على البحر الأبيض، كبياض أحلام الوطن ،في تداخل عجيب، فيه الأخذ والعطاء، وفيه الهضم والامتصاص، فالريح الشرقي والهوى، يأتي شرقيا، ولما ينزل منازلنا، يعطى صبغتنا وطعمنا، المشتق من الزيت والرطب والرمان والكسكسى، كي يتأقلم أكثر، مع مناخ مغربي و إفريقي، ومن ثم باستطاعته المرور إلى العمق، في جبال ألٲوراس والأطلس، والى ما وراء الصحراء. وكل هوى مشرقي، لابد له من محطة عبور، قيروانية الملامح، كي ينبت في هذاالمغرب،في بجاية و قسنطينة وعنابة وفاس و مراكش و طنجة والرباط و نواق الشط ، فهي منزلة وسطى،وبرزخ كوني، يستقبل الأفكار والمشاريع الوافدة،في فضائه المعرفي المنفتح ،أين تتلقح وتشذب، وتتخلى آليا ،في أوعيتها الذهنية، عن كل الشوائب والزوائد، التي لا تجد مجالها في النمو والإنتاج. هو إذا مجال وفضاء حيوي، تتمازج فيه الرؤى والأفكار، وتنتج على تربته وعلى أرضه ،فكره الخاص ورؤاه الخاصة ،والتي تواصل طوافها في الأراضي الرخوة كما الخصبة . من جهة الشمال ،تتمدد الأرض داخل المياه ،على أشكال متعددة، فيها الجزر والجزائر والقنوات، فهي كامرأة حبلى، تتمدد على الماء في صورة نادرة ،تمد يديها على سطحه ، تتواصل مع الآخر، في عزة وإباء، و في خشوع أبدي ،تستمتع بترنيمات الكون، المبحرة مع موجات البحر ،من الشرق أو الشمال، في تماس عجيب ، تستقبل الآتي إليها بانفتاح وانشراح ، تنظر فيما عنده،وتأخذ منه ما يصلح لها. ومن الجنوب تمتد على أطرافه الصحراء، و تغمره الرمال ،تدفع فيه الطاقة وتمنحه الدفء،وتركز فيه العطاء ،حتى يؤدي دوره الريادي ،في الإشعاع وإنارة الطرق،سبل المسافرين،في الفضاء و على الماء. هذا البلد،لم نره أبدا، منكمشا و مستسلما ،إلا في حالات الاستبداد و الظلم، ولم نره ولم نعهده، يفرز أكثر مما ينتج، إلا في حالة أن يكون الوصي عليه ظالم أو جاهل ، ولم نرى فيه عافية وتطلعا للبناء والعمل، على الإنتاج وتصدير الأفكار والمشاريع، والمناهج ، إلا زمن الحرية، زمن الانسجام، بين إرادته وإرادة أبنائه وتطلعاتهم، زمن الإضاءة والإطلالة، على الشرق على الشمال والغرب، زمن الوفاء للأبطال من النساء والرجال. هذا هو بلد المشاريع والرؤى، وطن الأحلام التي أشعلها البسطاء. وطن يبغي حرية وينشدها، حرية تمكنه من الفضاء الملائم، كي ينمو، دون تشوهات تلحق مراجعه و مشاريعه ، وطن يؤسس، من بعد الثورة على الفساد، العمل والبناء، كي يقدم نموذجه في زمن عز فيه الوفاء.... و بلد يستحق من فلذات أكباده ، تلبية النداء، فالإرادة إن لم تكن جماعية، لن تقدم الغذاء "الروحي المادي والمعرفي" و إن لا قدر الله، تعطلت لغة التواصل بين مكوناته، فالطرق تصبح عسيرة، وعرس الشهيد يمسي منبرا، يتنازع فيه الإخوة والرفاق و الأصدقاء، و يعتصم حوله المتعبين والمجروحين الأوفياء، والذين يحملون على نواصي ذاكرتهم، عذابات السجون السالفة ..... تاجر وسجين سابق *