يسود اتفاق بين الأوساط السياسية والفكرية التونسية أن المواجهة الأخيرة بين الفرقاء السياسيين في تونس انحسرت اليوم بعد تشكيل الحكومة وشروعها في عملها في مجال الإعلام بعد أن تفادت الأطراف المنتصرة في الانتخابات والمتآلفة في الحكومة مواجهات عديدة وانزلاقات كثيرة قبل الانتخابات وبعدها وقبل تشكيل الحكومة وبعد تسلمها مقاليد السلطة. وحتى يكون تحليلنا للوضع منطقيا ويبتعد عن الاصطفاف والتحيز سننطلق من بعض المعطيات التاريخية والواقعية المتفق بشأنها والتي يمكن اعتمادها كمنطلقات وأرضية مشتركة لإدارة أي حوار حول الموضوع أولا لا يشك احد من المهتمين بميدان الإعلام في تونس وغيرها أن النظم الاستبدادية عموما تسعى ما بوسعها إلى إفراغ المؤسسات الإعلامية من أصحاب المواقف والمبادئ الذين لا يقبلون بتبرير سياسات الحاكم والمقربين منه ويسعى النظام جاهدا إلى إيجاد مؤسسات إعلامية موالية له ولسياساته. وفي هذا الشأن نحن جميعا في تونس نعلم جيدا أن الانتساب إلى المؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة كان طيلة العقدين الأخيرين محكوم بالولاء الحزبي أو الفكري، فلم يكن ممكنا لمن يحمل ولو تعاطفا قليلا مع الإسلاميين والمعارضين لبن علي أن يجد مدخلا إلى العمل الإعلامي مهما كانت تجربته وكفاءته العلمية ولا أدل على ذلك من الإعلاميين اللامعين الذين تزخر بهم شبكة الجزيرة والقنوات العربية الأخرى من التونسيين الذين لم يجدوا في مؤسساتنا العمومية والخاصة مكان او لعلهم رفضوا التواجد في ذلك المناخ الرديء والباهت. وعليه فالمجال الإعلامي التونسي منذ سنوات قد افرغ من الكفاءات ومن أصحاب المواقف والإعلاميين الشرفاء بمعنى الذين لم تلوث أقلامهم وأصواتهم بمدح الحاكم ونظامه وحزبه ولم يسبحوا له بكرة وعشية، بل وأكثر من ذلك نعلم أن الترقي في المسؤولية داخل المؤسسات الإعلامية كان يفترض ولو ضمنيا تسابقا إلى المشاركة في هرسلة المعارضة وصرف أنظار الناس إلى الهوامش من القضايا وربما تبرير سياساته الاقصائية ويمكننا هنا ذكر ما حصل للحقوقية سهام بن سدرين ومحمد مواعدة ومنصف المرزوقي وقيادات النهضة والعديد من المعارضين من الإسلاميين وغيرهم وكيف تعاملت الصحافة والإعلام التونسي عموما مع هذه الملفات. المعطى الثاني الذي يتعلق بالإعلام التونسي بعد الثورة هو التسابق والتكالب أحيانا على التنصل من تاريخ التواطئ والموالاة واثبات الثورية والانخراط في الثورة وبالتالي الانتصاب في صفوف المعارضين والمنتقدين باعتبار أن مهمة الإعلام هي النقد وكشف الحقائق ...وكل هذا جيد وينطوي على العديد من الأبعاد الايجابية فليس أقل من أن ينخرط الإعلام والإعلاميين في جبهة تحقيق أهداف الثورة والمساهمة في بناء الجمهورية الديمقراطية حيث الإعلام الحر والمراقب والمصلح... غير أن الأمر أيضا لم يخلو من انفلات هنا وهناك قد يعود بعضه إلى إفراط في الانفعال والهروب من الماضي وشبح الاتهام بالفساد، فالمؤسسات الإعلامية هي نفسها والمسؤولين عنها والعاملين بها هم أنفسهم لم يتغير سوى منطوقهم وما يكتبون، وبالتالي هم يتدافعون إلى الإثارة أحيانا وإلى التخويف والتخوين حينا ليشغلوا الناس ويبعدوهم عن التنبه إلى ماضي هؤلاء الإعلاميين وما جنوه بالأمس على المجتمع والناس. وربما يندرج جزء آخر من الهستيريا الإعلامية في باب التهديد والوعيد للحكومة الماضية واللاحقة، أكثر طبعا، لأن الأطراف المتآلفة في الحكم ومحورها هم أعداء الأمس ومن يختلفون مع الإعلاميين ورؤسائهم في العقيدة الفكرية والولاءات الحزبية فهل من مطمع أن يتحول الإعلام التونسي اليوم مناصرا للإسلاميين بعد سنوات من المشاركة في القمع والتخوين وصناعة الفزاعات ؟ زد على ذلك لا يمكن أن يفهم تغيير الموقف منهم سوى نفاقا، وهم اليوم في الحكم، وهي تهمة لعلها أبشع من سابقتها وبالتالي الأفضل لهم جميعا الاصطفاف في المعارضة وبذل ما بوسعهم لاصطياد أخطاء النهضة وحلفائها مهما كانت صغيرة وتهويلها دون ذكر أو شكر ما يتم انجازه ولو كان عظيما. ولنا أمثلة عديدة في تهويل الأحداث واختلاقها في الغالب وانتقاء الأخبار وتزييفها عموما انطلاقا من الإمارات الإسلامية مرورا بحملات التشويه التي طالت الرئيس المنتخب وعديد الوزراء وعائلاتهم وصولا إلى اختلاق الاضطرابات والانشقاقات داخل الأحزاب والكتل... ولكن المؤشر الأخير هو الأخطر والأكثر تهديدا لاستقرار البلاد وسلامة أهلها أن تتحول بعض وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة أدوات للتحريض والابتزاز السياسي في وضع لا يمكن أن ينكر أحدا انه ما يزال هشا وقد يزداد توترا من خلال الكم الهائل من الرسائل السلبية والمحبطة الذي تبثه يوميا وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة فهل هذا ما يتطلبه الوضع الاقتصادي والاجتماعي لتونس اليوم؟ أم على وسائل الإعلام على الأقل مزج المشهد ببعض الرسائل الايجابية التي يراها غيرنا من الإعلاميين العرب والأجانب فيعتبرون التجربة التونسية نموذجا يقتدى به بينما لا نحسن نحن سوى جلد أنفسنا ونشر عوراتنا جزافا.