قبل هروب الرئيس المخلوع ببضع ساعات يوم 14 جانفي 2011 شق موكب الشهيد حلمي المناعي (23 سنة) صفوف آلاف المتظاهرين أمام وزارة الداخلية نحو مقبرة الجلاز ،معلنا بداية المواجهة الأخيرة بين نظام الرئيس المخلوع والجماهير الغاضبة في شوارع العاصمة وضواحيها وهي تردد "الشعب يريد إسقاط النظام".وقد أججت دماء الشهداء الذين كانوا يسقطون يوميا منذ 17 ديسمبر 2010 روح التمرد الشعبي ونخوة شرفاء عسكريين وأمنيين للإطاحة بالنظام وفسح المجال لمرحلة تاريخية جديدة قوامها الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ولا تزال دماء الشهداء والجرحى تلهم المؤسسات المنتخبة والجماهير الشعبية في تحركاتها لتحقيق أهداف الثورة والقطع مع ماضي الاستبداد والفساد وترسخ منظومات قانونية وثقافة سياسية جديدة تنبني على حقوق الإنسان والمواطنة والاستفادة العادلة من خيرات البلاد وثرواتها. وينطلق أول نص قانوني مؤسس لنظام سياسي لجديد في البلاد وهو القانون التأسيسي المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية ذو الصبغة الدستورية من تجسيد مبادئ الثورة المجيدة وتحقيق أهدافها والوفاء لأرواح الشهداء لوضع أسس جمهورية ثانية ذات طابع مجلسي مغاير لنظام قام منذ الاستقلال على أساس الحزب الواحد والزعامة الفردية. وأقر المجلس الوطني التأسيسي في بداية السنة الجديدة لجنة خاصة بالشهداء وجرحى الثورة لتتابع عملية تمكينهم وعائلاتهم من الحقوق المعترف لهم بها. وفي أواخر جوان الماضي انطلقت من صفاقس محاكمات المسؤولين والأعوان المتهمين بقتل وجرح ضحايا الثورة دون استثناء لكل من توفرت أدلة إدانة ضده تكريسا لمبدأ المحاسبة قبل المصالحة. ويعد المرسوم عدد 97 الصادر في 24 أكتوبر 2011 من المراجع الرسمية التي تعترف فيها الدولة بشهداء وجرحي الثورة بتعريفهم بأنهم "الأشخاص الذين خاطروا بحياتهم من اجل تحقيق الثورة ونجاحها واستشهدوا أو أصيبوا بسقوط بدني من جراء ذلك ابتداء من 17 ديسمبر إلى غاية 19 فيفري 2011". ويقر الرسوم بأن "التعويضات العادلة لجرحي وشهداء الثورة هي حق مشروع ومحمول على الدولة والمجموعة الوطنية" فكان ذلك منطلقا في عملية إسناد الاعتبار المعنوي والتعويض المادي لمئات من الضحايا وعائلاتهم. والى جانب التعويضات المادية مثل الهبات والمنح المالية والعلاج والتنقل المجاني أقر المرسوم تشييد معلم تذكاري ومتحفا خاصا بالثورة وضحاياها وإسناد أسماء الشهداء إلى أنهج وشوارع وساحات عامة. وخصص الرئيس المؤقت المنصف المرزوقي مباشرة غداة تسلمه لمهامه أول زيارة ميدانية له يوم 14 ديسمبر الماضي لعائلة الشهيد أحمد الورغي في بنزرت. وأعلنت الحكومة الجديدة أن ملف ضحايا الثورة سيكون في طليعة أولوياتها وقررت أن يكون يوم 16 جانفي الجاري موعدا لبداية صرف القسط الثاني من التعويضات المالية لشهداء وجرحى الثورة وأسدت التعليمات إلى المصالح الطبية والاجتماعية المختصة بالاستجابة لكل حاجيات المصابين وعائلاتهم. وأعلنت الحكومات التي تولت إدارة البلاد بعد 14 جانفي أنها تبقى منفتحة على مقترحات المجتمع المدني لوضع أفضل التصورات لتمكين ضحايا الثورة من حقوقهم المعنوية والمادية. ويتفق الجميع من عائلات الشهداء والسياسيين والحقوقيين على أن دماء الشهداء لا يضاهيها ثمن إلا بناء دولة جديدة عادلة وديمقراطية ومزدهرة.