عدت العام الماضي بفضل الله و كرمه الى تونس في زيارة قصيرة بعد الثورة بعد سنين طويلة في المنفى ثم عدت ثانية لقضاء عطلتي الصيفية. كانت عطلة جميلة منعشة حقا و كنت كمن يولد في وطنه من جديد، كنت أحس بشوارعه و بناياته و سهوله و هضابه و بحره و جباله و صحرائه صورا شعرية منحوتة في أعماق نفسي...كنت متعطشا للتجوال في الأسواق العتيقة و المكتبات ووسط العاصمة و الصلاة في جوامع الزيتونة و صاحب الطابع و حمودة باشا و الجلوس في مقاهي وسط العاصمة مع الأصدقاء كما كنت أفعل في الزمن الجميل، زمن الحركة الطلابية و الالتزام و الاندفاع الذي ليس له حدود... من اليوم الأول كان أبناء اخواتي الذين تركتهم أطفالا ووجدتهم شابات و شبانا يمتلؤون حيوية و يملؤون الدنيا عبقا و أريجا- حفظهم الله من كل عين- يوصونني: خالي عندما تخرج لا تاخذ الكاميرا معك ، اذا ركبت في الميترو لا تضع نقودا في جيبك، زوجتك لا تلبس أي حلي ظاهر عند خروجكما الخ...لم أكترث و كنت أركب الميترو و أتجول و النقود في جيبي و الكاميرا على كتفي و الحمد لله، الله سلم و لم يحصل مكروه، غير أن الرياح لا تجري دائما بما تشتهي السفن. منزل الوالدين بالمدينة العتيقة، بت فيه ثلاث ليال أبقى فيها صاحيا حتى الصباح، كل ليلة يسهر أمام المنزل مجموعة من المخمورين يسكرون حتى الفجر مع الصراخ و الصياح و ما هو مالوف من الكلام في مثل هذه السفالات، لم يكن النوم يطرق أجفاني خوفا من أن تلعب الخمرة برؤوسهم فيتجرؤوا على كسر الباب أو فعل الأسوئ. اتصلت ليلة بأخي المربي المجاهد الصحبي عتيق ، قلت له ألا يكون في الأمر مؤامرة من البوليس السياسي فضحك و قال لي: لا يا حسن الأمر عادي وهو في كل حي و أنت غير معروف حتى يتآمروا عليك و هؤلاء لن يؤذوك اذا عرفوا أنك ابن الحومة. في احد الأيام ذهبت الى السوق المركزي بنهج اسبانيا لشراء بعض الخضر، أحد الباعة يلبس "مريول خلعة" و شكله شكل باندي، اشتريت منه بصلا و اردت الاختيار من البصل الجيد الذي يعرضه في الواجهة فرفض و قال لي " اذا لقيت حاجة خامجة رجعهالي" ،ذهبت و كان معي ابني و ابنتي و هما أطفال و كان ابني يحمل كيس البصل و في أثناء تجوالنا تقطع فوقع البصل على الأرض ووجدت نصفه "خامجا" تقريبا فاستشط غضبا من هذا الغش الحقير و أرجعت البصل للبائع و طلبت منه فلوسي فما راعني الا وهو يمسك الكيلو بيده و يشبعني سبا من القاموس المعروف في تونس الذي يكاد لا يوجد له نظير في بذاءته في البلدان العربية. بادلته شتما سوقيا بشتم "حضاري" و قلت له أنه غشاش و أنه يأكل في بطنه ناراالخ... و لما رأيت الأمور ستتطور قلت في نفسي لا داعي للبطولات الوهمية و أخذت ولدي اللذين كانا في حالة هلع و خرجت. ذهبت يوما الى سوق شعبي لشراء بعض الفاكهة ، كان أحد الباعة يعرض ثلاثة صناديق خوخ" يعمل الكيف" و صندوقا آخر فيه بقايا أقل جودة، طلبت منه أن يعطيني من الصناديق الجيدة فرفض، قلت له " انزيدك مائتي مليم في الكيلو و خليني نختار" فاستشاط غضبا و بدأ يعلمني أن الرزق على الله و أننا عملنا ثورة الكرامة...و كاد يحشرني في زمرة الطرابلسية... كنت أتناقش مع أحد الأصدقاء عن هؤلاء الذين غزوا السوق بأخلاق السلب و النهب، قلت له عشت في المغرب الأقصى طويلا و أخلاق الباعة في الأسواق الشعبية مختلفة تماما، يتركونك تختار كل شيء حتى ما لا يصح فيه الاختيار كالفريز، قال لي المسألة ليست مسألة أخلاق و لكن قانون السوق يختلف هنا و هناك، هناك لا يبيع الا اذا ترك الناس يختارون و هنا قانون آخر للسوق، في كلامه قدر من الصحة و لكن لم يقنعني. حدثني ابن أختي وهو طبيب بيطري و شاب" يعمل الكيف" لمن تبحث عن فارس أحلام، قال ذهبت زمن المخلوع الى نهج بومنديل لشراء حذاء رياضي أعجبني و كان ثمنه خمسة و عشرون دينارا فطلبت من البائع –و شكله شكل الباندية- أن يخصم لي خمسة دنانير فأخذ مني النقود ثم دفعني هو و زميله خارج المحل و لم يرجع لي مليما واحد و من حسن حظي أني أخذت الحذاء. زرت احدى مدن الجنوب التونسي فوجدت حكاية يتناقلها الناس باستياء شديد ، أستاذ محترم و على خلق رفيع محمود بين الناس، رجع الى منزله ليلا فوجد مجموعة من المخمورين جاؤوا من عرس مجاور يسكرون أمام بيته، نهرهم و طلب منهم المغادرة فأشبعوه ضربا حتى أغمي عليه و لما جاء ابنه ليدافع عنه حصل له ما حصل لأبيه. بات الرجل برضوضه و كدماته و في الصباح تحامل على نفسه و ذهب ليسجل شكاية في مركز البوليس فصعق دهشة حين وجد زعيم العصابة يشرب الشاي مع البوليس و في يده جبيرة و قد قدم ضده شكاية بشهادة طبية مزورة. الحكايات تطول و لا تنتهي، و لكن اذا كانت أولوية المرحلة التي تمر بها بلادنا سياسية باستحقاق و اذا كان ارساء الهوية الديمقراطية للدولة هو مطلب الحاضر فهل معنى ذلك أن نهمل الاصلاح الاجتماعي؟ رأينا في اعلام العار عقب سقوط الطاغية كثر من أولاد فرانسا يتهمون النهضة بأنها تريد تغيير المجتمع و كأن ذلك جريمة و كأن محاربة الخبائث تهمة. نعم ، لا مجال لسيطرة الدولة على المجتمع أو لفرض سلوك نمطي على الناس من فوق و لكن هذا لا يعني تعطيل مبادرات المجتمع المدني و المساجد و الساعين بالاصلاح في هذا الباب. هل الآداب العامة و الأخلاق الحميدة ثانوية بالنسبة للاصلاح السياسي؟ لا بالتأكيد لأن الاجتماع كل لا يتجزأ. كنت مرة أقرأ كتابا لعالم الاجتماع المعروف نوربير الياس عن ديناميكية و حضارة الغرب و فيه يتحدث عن كتيب صغير لقي رواجا كبيرا في القرن السادس عشر في الغرب لايرازم أحد وجوه الاصلاح المعروفين و لم يكن موضوع هذا الكتاب الذي ترك أصداءا في زمنه سوى الآداب العامة: آداب الأكل و الطريق و المجلس و الخلاء الخ...و يعلق نوربير الياس على ذلك بأن الحضارة الجديدة التي بصدد التشكل في كليات الاجتماع السياسي كانت تتشكل أيضا في دقائق السلوك و المشاعر و الوجدان، أن تبصق في الطريق أو تدخن في مكان عمومي أو تقهر الناس اذا كنت رجل سلطة أفعال تنبع من خلفية نفسية واحدة. أجدني مدفوعا لقولها بملئ فمي: نعم نريد محاربة الخبائث و تغيير المجتمع نحو الأحسن و لكن بالتوعية و الكلمة الطيبة و التي هي أحسن و استجاشة الموارد الطوعية للانابة في الناس و دعوتهم للخير من مدخل الرحمة و المحبة و الكرامة، الخراب الذي خلفه العهد البائد ليس خرابا سياسيا فحسب و لكنه خراب أخلاقي و سلوكي كذلك. أتمنى أن أرى في بلدي جمعيات كثيرة و حملات توعية نشيطة تسبقها البسمة و المحبة، جمعيات و حملات تستخدم و سائل التواصل المتاحة من محاضرات و استعانة بالخبراء و مطبوعات و أقراص مضغوطة و شبكات اجتماعية الخ...جمعية للتوعية بمضار التدخين و أم الخبائث أي الخمر، و جمعية لأخلاق السوق ، و جمعية لحقوق الجوار، و جمعية لآداب الطريق، و جمعية للسياقة الحضارية ،و جمعية لتشجير الأحياء و الطرقات و لتونس خضراء، و جمعية للاعتناء بالمدن العتيقة وأخرى لنظافة الأحياء و صباغة الجدران الخ...جمعيات كثيرة للسلوك الحضاري ترفع جزءا هاما من تحدي الاصلاح. كل كتب الحديث النبوي الشريف تضم بابا للآداب العامة و لكن لليوم لم نمنح للآداب العامة دلالتها الحضارية و ثقلها التاريخي كما فعل الآخرون، عندنا كنز ثمين لا نعرف قيمته. Hassen Ben Hassen