المتتبع للأحداث السياسية في تونس منذ الثورة وقبل الانتخابات وبعدها يلاحظ بيسر الدور الكبير الذي اضطلع به طرفين أساسيين في المشهد السياسي التونسي الطرف الأول هو التيار السلفي، إن كان هذا الاسم جامعا لكل المجموعات من التونسيين المتدينين الذين ازدادت أعدادهم منذ سنين في تونس والذين عرفوا بنمط معين من اللباس والانضباط والانتظام في مجموعات داخل المساجد وخارجها، وهؤلاء على تنوعهم ظهروا وانتشرت مجموعاتهم في تونس خلال سنوات الجمر مع نظام بن علي وأتباعه من الانتهازيين وكان من أهم أسباب انتشار المجموعات السلفية ما تعرض له التيار الإسلامي عموما وحركة النهضة خصوصا من قمع وتجفيف للمنابع فكان ظهور هم نتيجة لذلك بالهروب إلى النمط الشرقي والخليجي تحديدا للتدين باعتبار أن تفادي اضطهاد النظام سيكون بهجر السياسة في العمل الدعوي الإسلامي غير أنهم لم يفلتوا من آلة القمع البولسية في السنوات التي سبقت الثورة ونالهم نصيب من التنكيل والتعذيب، ثم انتقلوا بعدها إلى وسط الساحة السياسية فاعلين مباشرين يصنعون الأحداث ويثيرون حولهم صخبا كبيرا يقطع مع توجهاتهم السابقة حيث كانوا يتهمون أنصار النهضة بتشويه الدين بالسياسة وانحرافهم عن طريق أهل السنة والجماعة وغيرها من المآخذ. والطرف الثاني وهم مجموعة من الإعلاميين والمثقفين ورجال العلم والمعرفة ممن يتبنون أحيانا الهوية العربية الإسلامية ولكنهم يصطفون بكل صرامة ضد الحركة الإسلامية باعتبارها مدرسة ترفض التقدم والتحديث ويعيبون عليها التزامها بالتوجهات الاخوانية والفكر الأشعري معتبرين أن متطلبات الحداثة اليوم تفترض خطا آخر يقترب ويتماهى تقريبا مع الحداثة الغربية ولذلك تجدهم يتحالفون مع العلمانيين والحداثيين من الليبراليين واليسار الفرنكفوني وهؤلاء موجودون هنا وهناك في الإعلام والإدارة والجامعة يجمعهم فقط عداؤهم للنهضة أو لنقل للفكر الإسلامي السياسي وقد اختزلنا هذا الطرف في شخصية الإعلامي زياد كريشان لسببين: الأول أنه نموذج لمن كان منشؤهم فيه انتساب ما للفكر الإسلامي أو ادعاء لذلك من ضمن المجموعة التي أطلقت على نفسها التقدمية أو اليسار الإسلامي وهي بدعة في الفكر الإسلامي أراد بها أصحابها الخروج على فكر الاتجاه الإسلامي بدعوى أنهم يرفضون العنف ويؤمنون بالتقدم والحداثة ضمن إطار الهوية العربية الإسلامية وظلوا يقدمون أنفسهم بديلا لفكر الشيخ راشد الغنوشي وحركة النهضة فينساقون كثيرا من الأحيان إلى تبرير قمع النهضة وقياداتها والمشاركة ولو رمزيا في ذلك. والسبب الثاني أنه أيضا نموذج لمن ركب الموجة النوفمبرية بشكل ما وساهم مع رفاق له في ما ارتكبه بن علي من فضاعات في حق المعارضين ولعل دفاعه عن أحد رموز الطرابلسية وقوله الكثير من الكلام الجيد في النظام السابق ورجالاته أمر معلوم لدى العديد من الإعلاميين والمتابعين للشأن السياسي ثم سرعان ما ينقلبون مدافعين عن الثورة متبنين لأفكارها التي اختزلوها طيلة الفترة الانتقالية في التحرر من التدين ومهاجمة المجموعات المتدينة والتحذير والتخويف من التراجع عن الحريات الفردية والعامة وإثارة الاختلافات والمواضيع الخلافية وتضخيمها في أوقات تعمها الفوضى والتجاذبات أصلا وهم في كل ذلك لا يقصدون سوى تجييش الناس ضد النهضة ومواصلة إستراتيجيتهم التي مارسوها مع بن علي في نشر الاسلاموفوبيا. اليوم يقف الطرفان على طرفي نقيض يتدافعون ويدفعون من حيث يعلمون أو لا يعلمون بالبلاد إلى زيادة التوتر والاضطرابات في وقت حساس ينتظر فيه الناس أصلا بناء انطباع أول عن الحكومة وأدائها ..وهم بذلك يعتقدون أنهم يحرجون الحكومة ويضعونها في الزاوية ولكن يا خيبة المسعى لان الناس عموما تزداد قناعتهم أن إثارة الخلافات حول المسائل الدينية ليس له أي سياق اليوم سوى اختلاق الصعوبات وتهديد الثورة....كما أن التشبث بالحرية على حساب المعتقد وقيم المجتمع لن يجد مرة أخرى سوى الصد ومزيد تعاطف الجمهور مع الحكومة التي يصر خصومها على اختزالها في حزب النهضة. وفي المحصلة لا يفعل خوارج الثورة التونسية يمينهم ويسارهم سوى تعبيد الطريق للحكومة الحالية وللأحزاب المتحالفة في السلطة لتثبيت أقدامها في الحكم وتمهيد الأوضاع لنجاحها مجددا وبنسب أكبر في الانتخابات القادمة.. وما سيزيد أوضاع هؤلاء سوء ويجعل الناس ينفضون من حولهم الوضوح والشفافية التي ما تزال الحكومة تتعامل بها مع الأوضاع الداخلية والخارجية ولا أدل على ذلك من الالتفاف المتواصل على قرارات الحكومة وانجازاتها المرتقبة في الأمن والإعلام والتنمية والسياسة الخارجية..لتتحول قضية نسمة ومسألة النقاب والتجاذبات داخل الجامعة هوامش لا يعيرها الناس أي اهتمام ...