لست من هواة إذلال الحروف بالمديح ، ولكن النماذج البشرية التي نكتشفها بين الحين والحين وتهديها لنا الثورة التونسية ، تجعلنا في موقف مهيب إزاء هامات حقيقية تملأ معنى النضال وتغني جوهر الانسان الحر المريد ، وتشرّف مرجعية الثورة التونسية والعربية أيما تشريف . أولئك المواطنون التونسيون الذين استهدفهم القهر والتنكيل والحصار السياسي لعقود ، أولئك الذين حرموا من أبسط الحقوق البشرية في زنزانات انفرادية وتحت رقابة لصيقة ومنع تام من القراءة والكتابة والتواصل ، في موجة تعذيب نفسي وجسدي تفوق التصور والتحمل .. من أجل أن يلينوا ، أو يساوموا ، أو يتنازلوا ، ... ولكن هيهات . إن محاولة قراءتهم أو سرد سيرهم الذاتية أو اختصارها .. قد تسيء إلى نقائها ، ويكفي أن تستمع إلى الواحد منهم للحظة .. فتدرك سرّ تلك القوة الروحية والثبات المبدئي والامتلاء الوجداني والتوازن الفكري .. بعد تلك العشريات المدمّرة للأعصاب والنفوس والأجساد والأفكار .. والأهل .. يكفي أن تستمع وتشاهد فتحاول أن تجد مبرّرا غير بشري لحالتهم تلك .. ولكنك تفشل ، لأنهم ينطقون بكامل التواضع ويعبّرون بتمام الصدق عن وجدان مكشوف.. ، فنصدّق أننا أمام استثناءات خارقة لواقعنا الاجتماعي و العلائقي والمعيشي ... ونستحي من جهلنا بما كان يجري على مقربة منا ونحن في غمرة الزيف والتعتيم الإعلامي الكبير . قد تغمر جسدك قشعريرة أو تهاجمك رغبة في البكاء وتحاول أن تصرخ : لماذا وكيف .. يا وطني ..؟ ولكنك تصمت لأن صوتك متأخر عن وقته .. ولأن الذين صبروا كلّ ذلك العمر لم يكونوا بحاجة لصوت خارج إيمانهم القوي بالواحد الأحد الذي أحبّوه وعرفوا الطريق إليه واستلذوا العذاب في سبيل رفع كلماته وخدمة رسالته .. فأحبّهم وحماهم ورفع قدرهم وجعل أفئدة الناس تهوي إليهم .. عرفنا ذلك مع الأنبياء والصالحين ونذكر قدرَه تعالى مع يوسف عليه السلام ... فلولا الخوف من الإثم لعددناهم من الأنبياء ... وأقول أيضا : لو أدرك أعداؤهم اليومَ أولئك الذين يحثون في طريقهم الغبار أنهم سيصلون إلى السلطة وسيرفعهم الله على الجميع .. لتمسكوا بالاستبداد ورضوا بالقهر واغتالوا الثورة ... لأنهم يدركون ربما معنى قول الرسول الأكرم " خلوا بيني وبين الناس " .. الناس الذين سيتعاملون ببراءة ودون خلفيات مع هذه النماذج .. و الله غالب على أمره .. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .. ممن آمن وصبر وثبت ولم يبدّل ، وإنه لشرف لتونس أن يكون بها أمثال أولئك قادةً على تواضعهم ، تغلبهم روحانية الإيمان فلا يطمعون في مال ولا جاه ، ويزهدون في المكسب ومنافع السلطة .. بعد أن ساد فيها المفسدون العابثون الفاسقون وطغت قيم المادية الجامحة .. فحق عليهم القول ، فدُمروا تدميرا .. هذا .. لعلّ قومي يعلمون . سالم المساهلي