فادي جمال الدين الثبات......الثبات ضد حكم المافيات»...هكذا أنشد عدنان الحاجي وردد معه رفاقه الموقوفون... كما أنشد معهم الأهالي الحاضرون بالجلسة ورافقت هذه الأنشودة زغاريد الصبايا والنسوة..... انه مشهد رائع يجسمه فئة من رجال ونساء وشباب هذه البلاد بكل تحد... وفي المحكمة بالذات عنوان الظلم وهتك القوانين وتنفيذ التعليمات . لقد امتدت السواعد في سماء قاعة الجلسة, ثابتة , صلبة, رغم الجوع والبرد... ملوحة باشارات النصر , متحدية لمئات أعوان الأمن المنتشرين في كل شبر من قاعة الجلسة وخارجها .... انها حركة الاحتجاج التي انطلقت في الرديف وكامل الحوض المنجمي وهي الآن متواصلة داخل المحكمة غير عابئة بما أعدوا لها من وسائل القهر والقمع والقتل. انطلقت المحاكمة في حدود الساعة العاشرة صباحا وشرع رئيس الجلسة في قبول الاعلامات الجديدة للمحامين الذي كان عددها قرابة الخمسين... مما جعل العدد الجملي للمحامين المتطوعين للدفاع 150 محاميا قدموا من كافة أنحاء البلاد رغم قساوة الطقس والمراقبة الأمنية اللصيقة لهم في كافة الطرق المؤدية الى مدينة قفصة . حاول رئيس الجلسة أن يشرع في المحاكمة وذلك بقراءة قرار دائرة الاتهام ثم استنطاق المتهمين الا ان المحامين تصدوا له لسببين اثنين يتمثل السبب الأول أن عددا من المحامين قدموا اعلامات بالنيابة جديدة وطلبوا تأخير القضية للأطلاع والدفاع ويتمثل السبب الثاني في وجود مسائل أولية لا بد من حسمها قبل الشروع في المحاكمة لذلك تقدم عدد من المحامين الى هيئة المحكمة بمطالب أولية متعلقة خاصة باحضار المحجوز بالجلسة وسماع شهود البراءة وعرض المتهمين على الفحص الطبي.... وكان هذا الطلب الأخير أكثر المطالب احراجا لهيئة المحكمة المنتصبة ولأسيادهم وراء الستار في محلات وزارة العدل ووزارة الداخلية. فان المطلع على مظروفات الملف سيشاهد بعينه تونس الحقيقية دون مكياج... ويكتشف مدى بشاعة السلطة واستهتارها وعدم تقييدها بأي ضابط قانوني أو سياسي أو أخلاقي... واني سأسرد بعض العينات ... لكم ..وللتاريخ... وحتى يكون الجميع داخل البلاد وخارجها على علم بما يحصل لنا في دولة العهد السعيد وسنعتمد في ذلك أعمال قاضي التحقيق التي يمكن الرجوع اليها... اليوم... أو غدا... حينما يقاضي الضحية جلاده *-المتهم : هارون حليمي: أكد تعرضه الى التعذيب من طرف أعوان الأمن الذين مارسوا ضده – لإذلاله – بحضور شقيقه طارق أعمالا لا أخلاقية ولاحظ قاضي التحقيق آثار التعذيب مؤكدا أنه « عاين نفخا بكفيه وانتفاخ ساقيه وخده الايسر» *-المتهم : كمال علبوشي: تعرض إلى التعذيب داخل مركز الأمن الوطني بالرديف ثم وقع نقله الى منطقة الشرطة بقفصة أين تم مواصلة تعذيبه ولاحظ قاضي التحقيق آثار ذلك ( عاينا انتفاخا بقدمه اليسرى وآثار جرح على مستوى الساق اليسرى والركبة اليسرى وزرقة على مستوى الفخذ وزرقة على مستوى ذراعه الأيسر) *- المتهم : علي الجديدي: أكد تعرضه الى اعتداء جنسي من طرف أحد أعوان الشرطة داخل منطقة الشرطة بقفصة ثم خضع إلى شتى أنواع التعذيب وقد عاين قاضي التحقيق ذلك ( عاينا خلخة بأحد أسنانه الأمامية كما عاينا أثرا بذراعه الأيسر وكسر على مستوى أحد ضلوعه) *- المتهم بوبكر بن بوبكر : تولى تعذيبه عون الأمن بلقاسم الرابحي ودلس عونا الأمن الحسين نصيب وعبد الكريم سعايدية محضر سماعه وتتكرر هذه الصورة البشعة والشهادات المخجلة طيلة أوراق الملف الذي يبلغ 500 صفحة وعلى لسان أغلبية المتهمين تم رفعت الجلسة من طرف المحكمة في حدود الساعة الحادية عشر والنصف صباحا للتفاوض في خصوص مطلب المحامين في التأخير للإطلاع والدفاع والجواب عن بقية المطالب المتعلقة بالمحجوز وبسماع الشهود وبالعرض على الفحص الطبي... وفي هذه اللحظة وعندما همت هيئة المحكمة بمغادرة القاعة وقف النقابي عدنان الحاجي وسط الجموع رافعا رأسه ملوحا بيده اليسرى معلنا عن النشيد الجديد الذي يلحض الأسلوب والهدف للمرحلة القادمة من الصراع الاجتماعي والسياسي في بلادنا « الثبات....الثبات ضد حكم المافيات» تتوالى الساعات والمحامون والنقابيون والأهالي وعديد الوجوه اليسارية ينتظرون خروج هيئة المحكمة لإعلان موعد الجلسة القادم والجواب عن بقية المطالب... تتوالى الساعات... والناس ينتظرون وقد بدا على وجوههم أثر الجوع والتعب وقساوة الطقس ... خرج النهار... ودخل الليل والجميع على نفس الحالة... لاحت بعض المؤشرات: تم جلب مزيد من أعوان الأمن المدججين بأسلحتهم لضرب طوق أشد على المحكمة...وقع الترفيع في عدد أعوان الأمن بجميع أصنافهم داخل المحكمة ... فعددهم يتجاوز عدد بقية الحاضرين من غيرهم.... بلغ الى مسامع المحامين بواسطة هواتفهم الجوالة أنه تم محاصرة مدينة رديف ووضعها تحت الطوارئ ومنع كل حركة أو جولان داخلها...كل ذلك في حدود الساعة العاشرة والنصف ليلا.....كل هذه المؤشرات بدأت تفيد ان هيئة المحكمة ستصدر أحكاما ولن تستجيب لمطالب المحامين في حدود الساعة الحادية عشر والنصف ليلا تم جلب عدنان الحاجي وبقية رفاقه الى المحكمة وادخالهم الى قاعة الجلسة في اجراءات أمنية غير مسبوقة... اذ تم وضع حاجز من أعوان الأمن يفصل بين المتهمين وهيئة المحكمة وحاجز مماثل يفصل بين المتهمين كذلك والمحامين.......... فصرخ احد المحامين منددا: هذه ليست محكمة هذه ثكنة وأضاف محام آخر مستغربا : كيف يمكن لقاض ان يقبل بهذا الوضع؟ دخل رئيس الدائرة رفقة قاضيين فقط دون ان تكون تركيبة الهيئة تامة اذ غاب عضوان آخران وممثل النيابة العمومية وكاتب الجلسة... وهو أمر حسب رجال الاختصاص مخالف للقانون الذي يقتضي أن تكون الهيئة القضائية كاملة عند التصريح بالحكم في جلسة علنية... كان رئيس الدائرة في حالة يرثى لها, مرتبكا , خائفا, رغم انه في حماية مئات من أعوان الأمن ولم يقدر على رفع رأسه أو ينظر في وجوه المحامين أو في وجوه ضحاياه الذي نطق في شأنهم بحكم سالب للحرية لسنوات عديدة تم املاؤه عليه. ان هذه المحاكمة أثبتت الحقائق التالية: أولا: ان المائة والخمسين محاميا المتطوعين للدفاع عن عدنان الحاجي ورفاقه أكدوا بصفة قاطعة ان المحامين ثابتون في تبني قضايا شعبهم في الحرية والعدالة الاجتماعية واستعدادهم الدائم للوقوف ضد الظلم والقهر وتلفيق القضايا وانتهاك القوانين... ويستحقون بالتالي تحية إجلال وتقدير من طرف بقية الفئات والمهن ثانيا : تحول القضاء إلى مؤسسة أمنية تابعة لأجهزة الأمن وجاهزة دائما لتنفيذ تعليمات المافيا... وهي تشارك كل يوم في كافة الجرائم الواقعة على الشعب التونسي من خلال حماية الجلادين وسراق المال العام وتنفيذ التعليمات الماسة بحريات البشر وحقوقهم... فالقضاء التونسي أصبح فضيحة البلاد ... وجزءا لا يتجزأ من الفساد ومنديلا قذرا تمسح فيه السلطة قاذوراتها النتنة. ثالثا : لم تفهم السلطة أن أحداث الرديف والحوض المنجمي هي تعبيرة عن حركة جماهيرية تحركها دوافع اقتصادية واجتماعية تراكمت عبر السنين وأدت الى حصول وعي لدى سكان تلك المناطق بتعرضهم الى " احتقار اجتماعي " من طرف السلطة وإهمال مطلق لشواغلهم ومطالبهم....فانتفضوا ... في الشوارع... وواصلوا انتفاضاتهم داخل المحكمة... لأن هذه الحركة الاجتماعية- ككل الحركات المماثلة - لا تعترف بالجدران ولا توقفها الحواجز الأمنية وان أسلوب السلطة القمعي والدموي في التعاطي معها لم يجدها نفعا بدليل تواصل الاحتجاجات والمصادمات بين الأهالي ورجال الأمن بعد صدور الأحكام... وان تواصل هذا المنهج من طرف السلطة ومع بداية ظهور تبعات الأزمة المالية العالمية على البلاد ستجد نفسها في مواجهة أطراف اجتماعية أخرى ومناطق محرومة أخرى رابعا: ان الحركة الاحتجاجية بالرديف كانت أهم حركة جماهرية طرحت المسألة الاجتماعية خلال العشرين سنة الماضية... كانت قوية ثابتة دفعت بالسلطة الى استعمال الرصاص الحي وقتل أحد المتظاهرين ووجدت تعاطفا داخليا ودوليا وتجند لها كافة المحامين من كل الحساسيات السياسية والفكرية باستثناء محامي الحزب الحاكم والاسلاميين فان كان موقف المحامين المنتمين الى السلطة أمرا عاديا فان غياب الاسلاميين يثير تساؤلات سنخصص لها مقالا خاصا. غادرت المحكمة تحت انظار الأمن... ركبت سيارتي لأعود من حيث اتيت.... كان الطقس باردا... وكانت الأمطار تتهاطل بغزارة على مدينة قفصة... لم يشتغل مسخن السيارة .... شعرت بالبرد كما لم أشعر به أبدا طيلة حياتي... ثم تذكرت ذلك النشيد الجديد الذي زعزع أركان قاعة الجلسة وأربك رجال السلطة وهم في مكاتبهم وقصورهم... فصرت أردده وحيدا في سيارتي وكلما أعدت ترديد النشيد ازدادت الحرارة في جسدي... اعادوا عدنان الحاجي ورفاقه الى السجن وعدت من حيث أتيت لكن سيبقى الاتصال بيننا مستمرا كلما رددت " الثبات.....الثبات ضد حكم المافيات» فادي جمال الدين