ورد في صحيح مسلم أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه لمّا طلب من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يستعمله، أي أن يولّيه على أمر من أمور المسلمين، ردّه النبي وقال «يا أبا ذر انّك ضعيف وإنّها أمانة، وإنّها يوم القيامة خزي وندامة، إلاّ من أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها» وعن أبي موسى الأشعري قال «دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنا ورجلان من بني عمّي، فقال أحدهما: يا رسول الله أمّرنا على بعض ما ولاّك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: إنّا والله لا نولّي هذا العمل أحدا يسأله أو أحدا يحرص عليه». من القيم الثّابتة في أصول الفكر الإسلامي النّبوي أنّ ولاية أي أمر من أمور المسلمين بدءً بالقضاء إلى رئاسة الدولة وإمارة الجيوش، تُعَدّ من التكاليف الشاقّة التي تستلزم القيام فيها بحقوق الله وحقوق الخلق، على الوجه الذي يرضي الله، بتحقيق العدل والحفاظ على مصالح الناس ودعم حصون المناعة للمجتمع ضد الاضطهاد والهيمنة، وضد أكل أموال النّاس بالباطل، وسلب حقوقهم الأساسيّة، وإثقال كاهلهم بالواجبات الزّائدة عن طاقتهم... بهذه القيمة نطق الرسول عليه الصلاة والسلام، بالقول الحق الفصل في أخطر قضيّة وأعظم أمر تناحر عليه المسلمون وتقاتلوا فيه حتّى فرّقوا دينهم وصاروا شيعا، وتناصر بعضهم على بعض، وتحالفوا مع الأعداء بغية الاستحواذ على الأمر والسلطة، فنبّه الأمّة إلى أرشد السبل لاختيار الوكيل عنها لسياسة أمورها وإدارة شؤون دنيا النّاس، فوضع في الميزان صنفين من أهل الرئاسة، وقاس سلوكهما بقياس الفطرة والشرع، وما أبو ذر الغفاري والرجلان من بني عمّ أبي موسى الأشعري إلا عيّنة حلّلها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وبنى عليها النظريّة النبويّة في انتخاب أولي الأمر، فوجد في الصنفين أحد الأمرين: إمّا الضعف والخباثة، وإما القوّة والأمانة. فأمّا الضعيف فإنّه تتحرّك فيه نوازع حبّ الدنيا وملذاتها، فيرى في الرئاسة شرفا ينال صاحبها لإسكات مطامعه وإشباع نهمه من لذّة التّسلّط والهيمنة على من هم دونه وتحت إمرته، وفرصة لاستغلال النفوذ لقضاء مآربه الشخصيّة، ومحاباة الأهل والأقارب على حساب مصالح العامّة وحقوقهم، فيسألها ويحرص على طلبها بالخبث والدهاء والمكر والخديعة وتبذير الأموال في الدعاية، وربّما بالقوة والانقلاب، فلا يصل إليها بحقّها ولا يؤدّى الذي عليه فيها.. وأمّا الأمين، فإنّ دوافع الإيمان والتقوى والخوف من ظلم النّاس والاعتداء على حقوقهم، تجعله يرى في الرئاسة والمسؤوليّة بلاء عظيما وتكليفا شاقّا لا يقدر عليه إلاّ الأقوياء الأتقياء، فلا يسألها ولا يحرص على طلبها، وإذا ما جاءته باتفاق الأغلبية من الناس، فإنّه يأخذها بحقّها ويؤدّي الذي عليه فيها، ويرى نفسه دائما مقصّرا في أداء الأمانة والوفاء بشروطها، فيكدّ بالسعي الدؤوب، عاملا بالتقوى، محاسبا نفسه قبل أن يحاسبه النّاس، لعلّه ينجو بنفسه في الدنيا بحسن البلاء وفي الآخرة بالأجر والمثوبة. وهكذا على الأمّة من النّاس إذا اجتمعوا ألاّ يعطوا أمرهم وسلطتهم إلى من يسألهما منهم ويحرص على طلبهما، فمن طمع في ولاية أمر المسلمين وحرص على طلبها، لا يخلو شأنه من أمرين: إما أن يكون كفءً رأى في نفسه الأهليّة للقيام بها دون غيره، ولكن طلبه إيّاها وحرصه عليها ينبئان بضعفه أمامها وعدم قدرته على أداء الذي عليه فيها، وما أغراه فيها إلاّ هيبتها ولذّتها، وإمّا أن يكون قويّا بغير كفاءة، فأغرته قوته ورأى السلطة في متناوله دون غيره، فاعتمد القوّة دعامة أساسيّة لسياسة النّاس وحملهم على الطّاعة والتسليم له بالكفاءة والقدرة على قيادتهم. ولأنّ في الإنسان منحى فطريّا نحو الاستبداد وطلب الغلبة على النّاس، فإنّ الذي يحرص على مناصب الرئاسة والإمارة يكون هذا المنحى قد تغلّب عليه، ودفعه بالقوّة والفعل إلى ممارسة الاستبداد والهيمنة، لما يشعر به حين يتولّى أمر مجموعة ما من سلطة مطلقة في أنفاسهم وأموالهم وأعراضهم.. وخير من تختار الأمّة لرعاية مصالحها وسياسة أمورها، القوي الأمين الذي لا يسأل السلطة ولا يحرص على طلبها، وإذا ما أمّروه عليهم أخذ الأمانة بحقّها وأدّى ما عليه فيها، وهي الصفات التي تمتّع بها موسى عليه السلام لمّا رشّحته ابنة أحد الأنبياء للعمل عند أبيها بقولها (... يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين) (القصص:26) فالقوّة والأمانة صفتان حميدتان، إذا ما اجتمعتا في شخص واحد جعلتا منه حكيما رصينا وقائدا ناجعا، إذ القوي بالحزم والجديّة والنجاعة، والأمين بالكفاءة والعلم والتقوى، يكون قد ثقّف منحى الاستبداد فيه وقهر نفسه على هواها، فلا يأتي منه إلا الخير، وعثراته وبعض سوآته يمكن أن تُغتَفر إذا ما قيست بنيّته وبانجازاته وحرصه الدائم على رعاية مصالح الناس وصون حقوقهم.. ولا يمكن لهذا الأسلوب الرّاقي في الوصول إلى الحكم أن يتحقّق إلاّ في مناخ سياسي يتّسم بالحريّة والتّعدّد، فالأحزاب هي التي تزكّي من تراه أكفأ وأقدر على القيام بأعباء الحكم وانجاز البرامج، لتعرضه على الشّعب للإنتخاب، وفي ظل دولة لها مؤسّسات دستوريّة محترمة، ولها سلطات تنفيذيّة وتشريعيّة وقضائيّة مستقلّة بعضها عن بعض، ولها من القوانين ما يجعل أولي الأمر مسؤولين أمام الشّعب، فيحاسبهم ويخلعهم متى حادوا عن القانون وتجاوزوا سلطاتهم وتحرّكت فيهم نوازع الاستبداد وأظهروا الفساد.. أمّا الوصول إلى مراكز الرئاسة ومواقع السيادة عن طريق الانقلاب أو الشعارات الواعدة والتسويف، أو عن طريق الكهنوت الديني والسلطة الرّوحيّة، فقد شهد التّاريخ القديم والحديث ويلاتها وفظاعتها، فلا تغرّنّك أبعد الله عنك الشبهة، الشعارات ولمعانها، فتحت رايات الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان قد تُباد شعوب وتُغتصب حضارتها، وتُنتهك أعراضُها ومقدّساتها، وتُدمّر أمم في كيانها الأخلاقي والثّقافي والدّيني والسّياسي، فانظر وتفحّص أحوال الشعوب والأمم التي جاءتها القوى الأمريكية والغربية بديمقراطية محمولة على ظهور المدافع والدبّابات، كما أنّه باسم الدّين قد تُستعبد شعوب أخرى و تُسلب منها الإرادة وتُصادر فيها الحريّة، وتكمّم فيها الأفواه وتجوع فيها البطون وتمتلئ فيها السجون.. فانظر إلى كلّ بلد أصرّ قادته وزعماؤه ورؤساؤه على إلصاق نعوت الديمقراطيّة والاشتراكيّة والشعبيّة والجماهيريّة بأنظمة حكمهم، ثم عاين أحوالهم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، فستجد شعوبهم من أفقر شعوب العالم، وحكّامهم من أغنى أغنياء العالم، وليس بينها دولة واحدة متقدمّة بالمعيار الحضاري والإنمائي، وليس بينها دولة واحدة خفضت نسبة الأميّة عن ربع السكان فيها، وليس بينها دولة واحدة تعيش تعدّد الأحزاب والتّناوب على السلطة، وليس بينها دولة واحدة وصل حاكمها إلى السلطة بقانون الانتخاب وعلى غير طريق التزوير والقوّة والسلاح، وليس بينها دولة واحدة لا يُعدّ فيها المسجونون السياسيون بالآلاف، فكل تلك الأنظمة التي أدّعت الدّيمقراطيّة والاشتراكيّة والشعبيّة... ليس لها من ذلك شيء إلا الشّعارات المكتوبة على الرّايات التي نُصبت فوق كراسي الحكم، أو المزدانة بها مداخل القصور والبرلمانات الصّوريّة، ثمّ استقرأ التّاريخ عن أحوال الخلفاء والسلاطين الذين تعاقبوا على دولة الإسلام، وزر المعالم التي لا زالت إلى يوم النّاس هذا شاهدا على قوّة سلطانهم وعظيم شأنهم وبالغ ترفهم، فستنبئك الأخبار في دمشق وفي بغداد وفي اسطنبول وفي القسطنطينيّة، وفي قرطبة وغرناطة عن سرّ تخلّف المسلمين وانحدار حضارتهم، وعن جريمة الحكم باسم الدّين والاعتقاد في أنّ "الخليفة ظل الله في الأرض" كيف أقعدت الهمم وغيّبت العقل ونشرت الاستبداد وطبعت حياة النّاس بالعجز والخرافة والتّواكل، فغابت عن أمّة الإسلام شمس المعرفة والعلم وغطّت في سبات عميق وسط ظلام دامس، إلى أن أتتها قوارع التاريخ، من التّتار إلى جحافل الصليبيين، ومن سقوط الأندلس إلى ضياع فلسطين.