إن المتأمل للمشهد السياسي التونسي الحالي لا بد وأن تستوقفه جملة من الملاحظات من بينها : 1- حالة الاحتقان السياسي بين المعارضة والترويكا وتحديدا حركة النهضة . فالحملة الشرسة ضد الحكومة قد بدأت مبكرا وعلى أكثر من مستوى ، والهدف منها على ما يبدو ليس مجرد الإرباك بل رغبة صريحة في نزع الشرعية التي تتلبس بها قصد إضعافها وتبرير أي تحرك قادم ضدها فالقول بأن شرعية الحكومة تنتهي يوم 23 أكتوبر من هذه السنة أي قبل نصف السنة من الموعد الانتخابي المقبل وربما قبل المصادقة النهائية على الدستور الجديد ، معناه أن الأطراف السياسية المعادية للنهضة ولمشروعها ترغب في إقصائها وتحييد أي دور لها في الإشراف على هذه الانتخابات. الهدف الثاني من مثل هذه التصريحات الإستباقية التي بدأت تروج لها وسائل الإعلام هو دفع الترويكا للقبول بمبدأ تشريك أطراف أخرى في الحكومة كانت قد رفضت قبلا الانخراط في الائتلاف الحاكم ثم ندمت بعد أن أحست بتقلص الدور الذي كان من المفروض أن تلعبه إما بسبب سوء تقديرها للوضع السياسي المحلي أو لفشلها في الدخول في ائتلافات حزبية موسعة . وبغض النظر عن خطورة مثل هذه التصريحات والنتائج الكارثية التي قد تتمخض عنها ، فإن اللافت للانتباه حقا هو اشتداد حدة اللهجة التي تستخدمها المعارضة والتي تستبطن كثيرا من العنف تجاه سلطة تبدو متسامحة حينا وفي موقع الدفاع عن النفس أحيانا . 2- حالة الارتباك داخل الإئتلاف الحاكم والذي هو انعكاس منطقي لحالة الارتباك والمخاض الذي عاشته وتعيشه الأحزاب المكونة للترويكا . فالصراعات المعلنة والخفية داخل هذه الأحزاب والتجاذبات الحاصلة بين الفاعلين فيها سرعان ما يقع تصديرها عن قصد أو عن غيره إلى الائتلاف خاصة مع وجود أطراف عدة تستبشر بمثل هذه الخلافات ولا تتوان عن تأجيجها قصد استثمار نتائجها في المحطات السياسية المقبلة .ولعل تصريح رئيس الجمهورية الأخير بمناسبة انعقاد المؤتمر الثاني لحزبه وتصريحات بعض مستشاريه من قبل لا يمكن تفسيرها إلا بمنطق الحسابات الحزبية الضيقة أو بمعنى أدق الدفع نحو تخطي الأزمات التي تعصف بالحزب ( انشقاقات بالجملة ) عبر خلق أزمة من الخارج حتى وإن كان ذلك على حساب حليف الأمس . 3- حضور المعطى الانتخابي بشدة : فموعد الانتخابات قد اقترب كثيرا وكل الأطراف تسعى إلى تسجيل نقاط سياسية بأي طريقة . ويبدو أن أيسر هذه الطرق وأقلها جهدا وتكلفة هي معادة النهضة وشيطنتها وتصويرها بمظهر المستبد رغم ما قدمته من تنازلات وبالرغم من حرصها على تثبيت أرضية للتوافق تجلت في عدة مناسبات ليس آخرها القبول بالصيغة الحالية للفصل الأول من الدستور القديم والعدول عن مقترح التنصيص على الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي للتشريع رغم الضغط الشديد الذي سلط عليها من أنصارها ومن المدافعين عن النهج الإسلامي في هذه البلاد. ولعل ما يقوم به نداء تونس اليوم من استقطاب واضح لأغلب الرموز والحساسيات السياسية بمن فيهم أولائك المحسوبين على التجمع المنحل ما هو إلا محاولة لإرساء جبهة حزبية قادرة على إيقاف توسع حركات الإسلام السياسي بعد أن فشلت كل المحاولات السابقة والتي بينت بالكاشف افتقار جل أحزاب المعارضة لقاعدة شعبية تؤهلها للمنافسة الجدية في الاستحقاقات الانتخابية القادمة . والغريب في الأمر أن هذا الاستقطاب قد طال نوابا في المجلس التأسيسي ترشحوا في قائمات مستقلة أو تابعة لأحزاب بعينها ، فكيف ينسلخ هؤلاء بكل هذه البساطة عن أحزابهم وينضموا إلى أحزاب أخرى في شكل من أشكال المعاشرة السياسية (concubinage politique) المستهجنة - والحال أن الشعب قد انتخبهم بصفتهم تلك و أودع فيهم ثقته على أساس برنامج انتخابي محدد – دون أن ترفع عنهم الحصانة ويقع تغييرهم بنواب من نفس القائمات ليواصلوا ما ائتمنهم الشعب على القيام به ؟ هذا الموضوع مر مرور الكرام ولا ندري لماذا ، ولو وقع في أي دولة ديمقراطية لتسبب في أزمة دستورية لأننا لا نعتقد بأي حال من الأحوال أن ينضم نائب عن حزب العمال الانقليزي مثلا إلى حزب المحافظين قبل انتهاء مدة ولايته على الأقل لأن ذلك سيُعّد مهزلة سياسية بكل المقاييس. 4 - حدة الاستقطاب السياسي : بعد التصحر الذي طبع الساحة السياسية التونسية لعقود بات الشأن السياسي اليوم مستباحا من جميع الأطراف والهياكل بما فيها تلك التي من المفروض أن تلتزم الحياد بمقتضى طبيعتها القانونية أو المبادئ التي تأسست عليها أو الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها . فالجمعيات مثلا لا يحق لها قانونا أن تكون واجهة أمامية للأحزاب السياسية وإلا انتفى طابعها الاجتماعي والمدني الذي هو جوهر وجودها ومجال اشتغالها . ونفس الشيء بالنسبة إلى المنظمات المهنية والنقابية التي كان من المفروض أن تكون بمنأى عن أي تجاذب سياسي أو حزبي ضيق ولكن الواقع التونسي يثبت العكس إذ أن الدور الذي يضطلع به الإتحاد العام التونسي للشغل هو سياسي بامتياز وإلا كيف نفسر احتضان أحد مقراته لوجه سياسي معارض استغل فضاءه ليلقي خطبة عصماء تهجم فيها على الحكومة ووصفها بالرجعية ودعا صراحة إلى إسقاطها عبر " حركة مد ثوري ثانية " على حد تعبيره . ألا يعد ذلك تواطؤا واضحا مع شق من المعارضة ضد سلطة شرعية أفرزها صندوق الاقتراع ؟ الإعلام من جهته لم يكن بمعزل عن عملية الاستقطاب المشار إليها وهو يلعب دورا رئيسيا في معارضة الحكومة وتضخيم أخطائها سعيا لإرباكها وإظهارها بمظهر العاجز تحت ذريعة حرية الرأي والتعبير . 5- تغليب المصالح الفئوية الضيقة : الكل في تونس يطالب ويعتصم ويتظاهر مدعيا أحقيته بمغانم الثورة التي تصوروها دجاجة عجيبة تبيض ذهبا والحال أن القاصي والداني يعلم حجم الفساد الذي خلفه النظام السابق والكم الكبير من الديون التي تدين بها بلادنا للبنوك والمؤسسات المالية الإقليمية والدولية. ولذلك وعوضا عن التنازل والترفع عن المطالب الفئوية الضيقة وتغليب المصلحة العامة ترى الجزء الأكبر من هذا الشعب قد انساق وراء تحقيق مكاسب فردية أو قطاعية ضاربا عرض الحائط كل دعوة للتأني والصبر والإيثار . وهنا أستحضر مثالين معبرين يتناقضان مع تمثل التونسي للثورة وسلوكه الانتهازي حيالها : - الأول : من ألمانيا ، حيث تخلى الألمان طواعية عن أجورهم لمدة أشهر لفائدة الدولة حتى تمضي قدما في عملية البناء و تتجاوز نكبة الحرب العالمية الثانية . وبالفعل وبعد أقل من خمسين سنة عاد هذا البلد ليضطلع بدوره كدولة عظمى وكقوة اقتصادية ضاربة . - الثاني : من اليابان حيث شرد الزلزال الذي ضرب البلد في 11 مارس 2011 - والذي أعقبته موجة تسونامي هائلة - مئات الآلاف ومع ذلك لم نقف على أي احتجاج ولم نلاحظ أي تدافع أو اعتصام أو قطع للطرقات . وقد وصل هذا الانضباط إلى حد فاق الخيال إذ يروي أحد الصحافيين أنه عند انقطاع الكهرباء عن إحدى المدن المنكوبة فإن جميع المتواجدين في المتاجر الكبرى يخرجون من المحلات ويتشكلون في صفوف وينتظرون عودة التيار الكهربائي حتى لا تحدثهم أنفسهم بالسرقة . إن هذه الأمثلة وغيرها تؤكد حقيقة مفادها أن الثورة الحقيقية تكون في العقول قبل أن تكون على الأنظمة القائمة ، كما أن نجاحها يبقى رهين الوعي باستحقاقاتها وأولوياتها بعيدا عن التشنج والاحتقان المبالغ فيه وبمنأى عن الاستقطاب السياسي الأعمى والحسابات الحزبية الانتهازية .