إنّنا نعيش مرحلة تاريخية قد يتقرّر فيها مصير بلادنا لعقود طويلة. و هذه المرحلة تستوجب التعامل الرّصين و العقلاني و الإبتعاد عن المصالح الحزبية و الفئويّة الضيّقة و النظر في مستقبل البلاد و مصالحها . و توجد في التاريخ لحظات فارقة تشكّل نقاطا مفصليّة قد تصعد فيها أسهم البعض و قد ينزل البعض الآخر إلى الحضيض بسبب سوء تقدير الموقف أو الدخول في لعبة تصفية الحسابات الضيّقة و تحقيق المكاسب الآنيّة بعد أن يكونوا قد باعوا ذممهم و مبادئهم للسلطان" فضلّوا و أضلّوا" كما قال علي بن أبي طالب عندما سئل عن موقفه من الخوارج وهذا ما حصل في بداية التسعينات للأسف الشديد. تواجه تونس اليوم تحدّيات كبيرة و صعبة و انتظارات حارقة , و إذا كانت التجاذبات السياسية الداخلية علامة صحيّة رغم ما يرافقها من تشنّج يمكن تفهّمه باعتبار أن الحكومة مازالت تتدرّب على الحكم و المعارضة تتدرّب على المعارضة بعد عقدين من التصحّر السياسي فإنّ التوافق في بعض الملفّات بات أمرا ملحّا . نبدأ بموضوع الهيئة العليا المستقلّة للإنتخابات خاصة و بلادنا ينتظرها استحقاق انتخابي في ربيع السنة القادمة وهو موعد حاسم للقطع مع كل ما هو مؤقّت , هذه الهيئة لم يقع الحسم فيها إلى اليوم و لا أدري هل بلادنا تحتاج إلى مشاغل إضافية و غموض في أمور تبدو بديهيّة و لا تستحق كل هذا الجدل رغم كل ما يقال عن سلطة المجلس الوطني التأسيسي دون غيره في إختيار الهيئة التي تشرف على الإنتخابات , لكن ليسمحوا لي بطرح السؤال التالي : هل الشرعيّة الإنتخابية تلغي الشرعية الثورية ؟ إذا كان الأمر كذلك فإنّه بهذا المنطق يمكن للمعارضة أن تقول للحكومة حول التحدّيات الإجتماعية و الملفّات الشائكة أيضا :" إذهب أنت و ربّك قاتلا فإنّا هنا قاعدون" . لا أحد ينكر شرعية الصندوق الإنتخابي و لكن المرحلة الإنتقالية تفرض على الجميع التوافق حول جملة من الملفات و منها موضوع هيئة الإنتخابات , إنّ السيد كمال الجندوبي هو رجل الوفاق فلماذا نبحث عن الشقاق ؟ لقد أنجز الرجل عمله في الإنتخابات السابقة بكل مهنيّة و شفافية جلبت له و لفريقه تقدير المنتصرين و المنهزمين و الملاحظين , وهذه التجربة الناجحة كانت نتيجة خبرة هذه الشخصية الوطنية في المجال الحقوقي فقد كان منذ سنوات منسقا عاما للشبكة المتوسّطية لحقوق الإنسان رغم محاولة البعض إقحامه في لعبة الإستقطاب الإيديولوجي ووصل البعض لحدّ محاولة تشويهه على صفحات التواصل الإجتماعي بعد قراره بتأجيل الإنتخابات في 24 جويلية الفارط لأسباب تقنية عرفها الجميع بعد حين بسبب جهلهم بكيفية تحضير انتخابات غير خاضعة لوزارة الداخلية . لقد قال الرئيس المنصف المرزوقي عن هيئة كمال الجندوبي :" لماذا نغيّر فريقا ناجحا" .لابد من الحسم في هذا الملف و يجب أن تدرك النهضة و الترويكا الحاكمة أنّ بعث هيئة جديدة على أساس المحاصصة الحزبيّة و خلق إشكال جديد مع المعارضة قد يجعل محاولات التشكيك و الإرباك لعمل الهيئة الجديدة و الطعن حتّى في نتائج الإنتخابات قبل حدوثها و يعلم الجميع من يملك وسائل الإعلام و يسيطر عليها و القادرة على خلق حالة من الإحتقان تبدو بلادنا في غنى عنها, فلم الرّيبة خاصّة أن حجم كل طرف سياسي معروف لدى الجميع . إصدار مرسوم يحدّد بشكل نهائي موعد الإنتخابات القادمة و إعادة الثقة لهيئة السيد كمال الجندوبي لتواصل عملها بعد التجربة التي اكتسبتها و دسترة تلك الهيئة يبعث برسائل طمأنة للجميع ويحسم عديد الملفّات و يوجّه البوصلة نحو الموعد الإنتخابي القادم حتّى لا نجعل من أحزاب غير قادرة على إنقاذ نفسها من الإنقسام تنادي بحكومة إنقاذ وطني . و لا ينسى الجميع أن المناضل كمال الجندوبي كان مدافعا شرسا عن حقوق الإنسان في عهد بن علي و دافع عن المساجين الإسلاميين بكل شراسة و فضح نظام المخلوع في الخارج و لدى مختلف المنظمات الحقوقية الأروبية و الدولية ممّا كلّفه الهجرة عن بلده لمدّة 25 عاما فعاد ليخدم وطنه من جديد في أول انتخابات حقيقية و يوظّف خبرته لإنجاح الديمقراطية الوليدة . و على النهضة كذلك ألا تنسى من وقف معها في محرقة التسعينات الرّهيبة عندما عزّ الرفيق و الصديق و تكالب المتآمرون و الإنتهازيون من الفرنكفونيين و بعض قوى اليسار الإستئصالي الذي ذكر المناضل حمّة الهمامي و عبد الجبار المدوري أنها هادنت بن علي و تواطأت معه في قمع الإسلاميين و لا ننسى بعض الشخصيات الوطنية الأخرى و الأحزاب التي لها رصيد نضالي كالحزب الديمقراطي التقدّمي و جريدة الموقف . مها بلغت الخلافات و حدّة الصراع السياسي و محاولات التشويه و التشكيك و الطعن فإنّ أخلاق الكبار تأبى النزول إلى الصغائر بل يبقي من في السلطة على شعرة معاوية فيزور خصومه السياسيين و يستمع لهواجسهم و الأرضيّة المشتركة التي يمكن البناء عليها .من يكون في الحكم تكون له المبادرة . لقد كانوا صفّا واحدا ضدّ الإستبداد فكونوا كذلك في بناء تونس الديمقراطية بعيدا عن منطق الغالب و المغلوب . و حفظ الله تونس. كاتب و محلل سياسي