ولقد كنّ مثلا للرّجال أنفسهم في الصبر والثبات والإيمان واليقين، وتحمّل الأذى والتعب والمرابطة. فهذه تحيّة شكر وتقدير لكُنّ جميعا وهنيئا لكُنّ بما صبرتم وبشرى لكُنّ جنّة عرضها السماوات والأرض أعدّت للصابرين والصابرات..."، كانت هذه آخر جملة قرأناها في الجزء الثاني من الحوار الذي دار بين الدكتور الشيخ الصادق شورو وجمال أحمد منشّط برنامج "بلا تأشيرة" عبر قناة الحوار اللندنية، ونواصل اليوم مع الجزء الثالث والأخير وهو الأطول، فقراءة مفيدة: - جمال: نعم، أشكرك دكتور، وصلت الإجابة وإن بشكل غير مباشر! الآن هل تعتقد بأنّه سيكون عليك قيود بعد الإفراج، وهل تتوقّع أن يمارس النّظام التونسي رقابة عليك؟ وهل تعتقد أنّ الإفراج هو إفراج أمني أم سياسي؟ - الصادق: الآن أنا تحت المراقبة، داري مراقبة من طرف السلطة الأمنيّة وقد استدعيت منذ أيّام إلى منطقة الشرطة في الحيّ التابع له ووقع التنبيه عليّ بأن أكفّ عن التصريح لوكالات الأنباء والقنوات الفضائية... - جمال: يعني... نتمنّى ألاّ نسبّب لك حرجا، ونحن في النّهاية رسالتنا دائما رسالة إصلاح ما استطعنا... نعم! تحدّثت بعض التقارير عن أنّك تمّ استجوابك نتيجة لتصريحات تتعلّق بدعوتك لمرحلة جديدة من المصالحة... فتفضّل ما هو تعليقك؟!.. - الصادق: نعم صحيح... قلت لهم أنا لا ألتزم بهذا الإنذار والتنبيه، وأنا أرى أنّه من واجبي ومن حقّي أن أصرّح وأعبّر عن رأيي، وهذا أبسط الحقوق خاصّة بعد ثماني عشرة سنة سجنا!... فهذه السنوات وهذا الاعتقال هو ضريبة لاسترداد كلّ حقوقنا السياسية والإجتماعية وغيرها. ولذلك فهذا أدنى حقّ ولي أن أعبّر عن رأيي لكلّ من يريد أن يسمع رأيي!... - جمال: نعم، دكتور قلتَ ذات مرّة أنّ اجتثاث حركة النهضة من تونس أمر مستحيل لأنّها شجرة مباركة أصلها أصلها ثابت وفرعها في السماء!.. هل مازالت هذه الحركة أصلها ثابت وهل هذا الأصل في تونس، بالنظر إلى أنّ الكثير من أبناء الحركة يعيشون في المهجر...، ويذكر أحدُهم أنّ الذين عانوا في تونس من سوء المعاملة في السجون أصبحوا الآن – ربّما – أكثر تقبّلا للتغيير وللعودة إلى الحياة العادية البسيطة؟!.. - الصادق: إنّ حركتنا، التي هي حركة سياسية، تريد إصلاح الواقع وتستمدّ روحها وجذوتها وعزمها من إيمان أعضائها بالله وباليوم الآخر وبالرّسل وبالكتب وبالقدر خيره وشرّه. وإنّ هذا الإيمان هو الذي جعلها تثبت وتصمد في وجه الأعاصير التي عصفت بها لتقتلعها من جذورها. إنّ هذا الإيمان هو الذي سيجعلها ثابتة وصامدة ورائدة حتّى يُكتب لها النصر بإذن الله تعالى "وليصرنّ الله مَن ينصره إنّ الله لقويّ عزيز"[1]. إنّه ما ضاع حقّ وراءه طالب وإنّنا سنظلّ ندافع عن ديننا ونطالب بحقوقنا كلّها وبالحرّيات السياسة والمدنية وبالعدالة الإجتماعية إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا... إنّ حركتنا لبنة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها، وإنّ أصلها الثابت هو كلمة التوحيد لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله بكلّ أبعادها العقديّة والثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وإنّ فرعها الذي في السماء هو العقل الذي كرّم الله به بني آدم "ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيّبات وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلا"[2]، وإنّ أكلها الذي تؤتيه كلّ حين بإذن ربّها هو العلم الذي ينع النّاس في دينهم ودنياهم وآخرتهم "وعلّمنا آدم الأسماء كلّها"... إنّنا لم نسمّ حركتنا باسم النهضة اعتباطا، وإنّما سميّناها كذلك لأنّنا أردناها أن تكون لبنة في صرح نهضة إسلامية معاصرة، وإنّ التاريخ والواقع قد أكّدا لنا أنّ هذه اللبنة لن يُكتب لها القيامُ في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة المتخلّفة ثقافيّا واجتمعاعيّا وسياسيّا ما لم تقم فيها شروطٌ ثلاثة هي الحريّة والعدل والحقّ... لذلك فإنّ سبيلنا اليوم هو سبيل إقامة هذه الشروط في مجتمعنا، وهو في حقيقته سبيل التوحيد والإصلاح؛ لذلك فإنّي أقول ما قاله شعيب عليه السلام حين دعا قومه إلى التوحيد والإصلاح: "إنْ أريدُ إلاّ الإصلاحَ ما استطعتُ وما توفيقِيَ إلاّ باللهِ عليهِ توكّلتُ وإليهِ أنيبُ"[3]... إنّنا سلكنا هذا السبيل استجابة لأمر ربّنا إذ قال: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومَن اتّبعني وسبحانَ الله وما أنا مِن المشركين"[4]. وإنّ طريقنا في هذه الدعوة هي الطريقة التي وصّانا بها ربّنا في قوله: "ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"[5] وإنّنا سنبقى سالكين هذه الطريق غير متردّدين حتّى يُكتب لنا إحدى الحسنيين... - جمال: نعم، والآن بعد هذه المدّة الطويلة التي قضّيتها في السجن، حدث تغيير كبير أيضا في أداء الحركة فما هو – حسب رأيك – التغيير الضروري الواجب حصوله في أداء الحركة كي يتميّز خطابها بتفهّمه لتغيّر الزّمان وتغيّر الواقع السياسي في تونس؟! - الصادق: في الحقيقة، هذه المسألة تحتاج إلى شيء من التفكير... ومع ذلك فإنّنا نعتقد أنّ الحركة عليها أن تتغيّر وتتطوّر بتغيّر وتطوّر الواقع كي تتمكّن من ربط قضاياها به... وألاّ تكون بعيدة عن الواقع سواء في اهتماماتها أو في قضاياها أو في مفاهيمها للواقع السياسي والاجتماعي والثقافي وغيرها، وهذا يستدعي شيئا من التركيز والتعمّق... (مستطردا): في الحقيقة، إذا كان لديك متّسع من الوقت أقول كلمة أخيرة!... - جمال: نعم، الآن سأترك لك المجال في كلمة أخيرة من خلال السؤال التالي، وأريد ألاّ تجيبني بشكل دبلوماسي: الدكتور صادق بعد هذه الفترة الطويلة من السجن ألا يقول الدكتور بينه وبين نفسه أنّّه قد حان الوقت الآن للاستراحة، فقد قضّيت عمرا طويلا في المعاناة والممانعة وتعب السياسة، فالآن أنعم بفترة هادئة مثل كثير من التونسيين؟!… فماذا يقول الدكتور صادق؟! - الصادق: لا…لا… ليس هذا من طبعي ولا من الشيء الذي أفكّر فيه، بل على العكس فقد نذرت حياتي من أجل أوّلا رضاء ربّي سبحانه وتعالى ثمّ ثانيا العمل على إعلاء كلمة الحقّ والعمل من أجل أن تكون بلادي في أحسن وضع من كلّ النواحي الثقافيّة والاجتماعية والسياسية... (مواصلا): وإنّي أريد أن أقول أخيرا بأنّ العالم يمرّ اليوم بأزمة إقتصاديّة وعسكريّة وسياسية واجتماعية خانقة، وأنّ بلادنا ليست بمنآى عن آثار هذه الأزمة المدمّرة، فهي كموجة التسونامي تدمّر كلّ شيء أتت عليه. وإنّ بلادنا في أشدّ الحاجة إلى كلّ قواها الفاعلة ثقافيا وسياسيا واجتماعيا لاجتناب أسوإ آثار هذه الأزمة. وإنّه لا سبيل لدرء مفاسدها إلاّ بفتح باب المشاركة السياسية والثقافية والاجتماعية لكلّ هذه القوى وفي مقدّمتها حركة النهضة في كنف الحرّيات والحقوق العامّة والفرديّة وأبرزها حريّة التعبير وحريّة التنظّم السياسي وحرّية الصحافة واستقلال القضاء لتقوم بدورها بكلّ مسؤولية، كلّ من شرعته ومنهاجه، في مواجهة كلّ التحدّيات الدّاخليّة والخارجيّة… وإنّي لأرى أنّ هذه الأزمة وما تقتضيه من تجنيد كلّ القوى الفاعلة في البلاد تجعل الوقت قد حان لنطوي جميعا صفحة الماضي ونفتح صفحة جديدة تُردّ فيها الحقوق لأهلها، ومنها حقّ عودة إخواننا المهاجرين إلى وطنهم وحقّ المسرّحين من السجون في الرّجوع إلى وظائفهم وتعويضهم عمّا لحقهم من أضرار ماديّة ومعنويّة هم وعائلاتهم طيلة فترة سجنهم وحقّ حركتنا في التأشيرة للعمل السياسي… والله وليّ التوفيق، قال تعالى: "وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان". وشكرا لكم جميعا... - جمال: نعم: دكتور؛ في ختام هذا البرنامج أسألك: هل تعتقد بأنّك تعيش الآن في تونس بلا تأشيرة؟! - الصادق: تقصد كحركة سياسية أم كشخص؟! - جمال: بالإثنين معا... - الصادق: أنا أعيش في تونس بلا تأشيرة سياسية، ليس لي حقّ... وآخر شيء أعلموني به أن أكفّ عن التصريحات، هذا يعني أنّه ليس لي تأشيرة لكي أعبّر عن رأيي وليس لي تأشيرة لأن أعمل أيّ عمل سياسي!!!... - جمال: إذًا أنت تعتبر أنّ تأشيرتك هي حريّتك للتعبير في بلدك الذي تعيش فيه تونس!.. - الصادق: حريّة التعبير وحريّة التنظّم السياسي وكلّ الحرّيات ومنها التنقّل داخل البلاد وخارجها لي ولكلّ النّاس!... - جمال: لم يبق لي إلاّ أن أشكرك شكرا جزيلا، الدكتور الصادق شورو الرّئيس السابق لحركة النهضة التونسية.... ثمّ شكر لنا جمال مشاهدتنا ومتابعتنا، واستدعانا إلى لقاء قادم مع برنامج "بلا تأشيرة"، وقد تمنّيت إلاّ يكون الضيف فيه تونسيا كي لا يحصل عقبه على تأشيرته إلى السجن، كما كان الشأن مع الصادق...(تمّ بفضل الله)، وبقي أن أخرجه بإذن الله – في قادم الأيّام وبعد تنسيقه - حوارا كتابيا كاملا يحفظ في الذاكرة التونسية، لتراجع فيه صلف النّظام التونسي وعدم اتّساع صدره لدعوات الإصلاح التي يكون داعيها متمسّكا بالحياة الفاضلة له وللنّاس وراغبا في رؤية بلده على خير حال من حيث وضعه الثقافي والسياسي والاجتماعي، وتوقّفوا رحمكم الله عند قول الصادق: "وإنّي لأرى أنّ هذه الأزمة وما تقتضيه من تجنيد كلّ القوى الفاعلة في البلاد تجعل الوقت قد حان لنطوي جميعا صفحة الماضي ونفتح صفحة جديدة تُردّ فيها الحقوق لأهلها، ومنها حقّ عودة إخواننا المهاجرين إلى وطنهم وحقّ المسرّحين من السجون في الرّجوع إلى وظائفهم وتعويضهم عمّا لحقهم من أضرار ماديّة ومعنويّة هم وعائلاتهم طيلة فترة سجنهم وحقّ حركتنا في التأشيرة للعمل السياسي"، لتعلموا أنّ كلّ ما قيل عن تنطّع القيادة المهجريّة لا أساس له من الصحّة... أم أنّ بعضهم سيقول لقد رفّع الصادق السقف كثيرا!... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... عبدالحميد العدّاسي [1]: الحجّ (40) [2]: الإسراء (70) [3]: هود (88) [4]: يوسف (108) [5]: النّحْل (125)