باريس ما يحدث اليوم في غزة بغض النظر عن أسبابه ومسبباته القريبة والبعيدة،السياسية الراهنة والتاريخية،الخفية منها والمعلنة،جريمة بشرية فظيعة بكل الاعتبارات والمقاييس،لا يمكن لأي آدمي على هذه البسيطة أن يبحث لها عن مبررات ومسوغات ولا يمكن إدراجه سوى في خانة جرائم الحرب والإرهاب الدولي المنظم ضد الإنسانية يشاهد فصوله كل العالم لحظة بلحظة ومشهدا تلو الآخر بكل ما يتضمنه من بشاعة وبربرية لا تقارن بما سجله لنا التاريخ في العصور الوسطى مع الفارق في ترسانة التسلح وأدوات التدمير الشامل . الجريمة واضحة للعيان وعلى الهواء مباشرة ولا تجدي معها البيانات الاستنكارية ولا المظاهرات السلمية ولا النداءات التنديدية ولا الاجتماعات التقليدية الممجوجة ولا القمم الجوفاء التي يتنادى لها بميكانيكية مفضوحة سواء على مستوى الجامعة العربية أو على مستوى الأممالمتحدة أو ما إلى ذلك مما فقد كل مصداقية وكل معنى لدى ابسط مواطن لا يفقه في السياسة ولا في النظام الدولي شيئا فضلا عن شرائح المثقفين والقوى الواعية في المجتمعات المعاصرة! الجريمة القائمة عمرها ستون عاما بالتمام والكمال لم تفلح آلاف البيانات والتنديدات والاجتماعات المتكررة والمفاوضات الهشة من إيقاف نزيفها أو الحد من فظاعتها بل إن ما يحدث اليوم فاقت بشاعته وبربريته كل ما سبق من مجازر وتقتيل جماعي وانتهاكات لا تتوقف على الدوام! أصل المشكلة بكل بساطة تكمن في تدقيق الموقف من الاحتلال: احتلال لا ينكره احد حتى قرارات الأممالمتحدة التي رمي بها عرض الحائط وأفرغتها من محتواها قرارات الفيتو الأمريكي المفضوحة والتي لا يقرها عقل و لا شرع ولا قانون بتواطؤ عالمي رهيب وانخراط عربي رسمي تنكشف فصوله يوما بعد يوم! جوهر السؤال يدور حول شرعية الاحتلال وشرعية رفض الاحتلال أي المقاومة. النظام الدولي حسم المسالة بتقنين الاحتلال تحت سياسة الأمر الواقع التي يمارسها الكيان الصهيوني الغاصب وبالتالي لا مجال للاعتراف بحق المقاومة في التصدي لهذا الاحتلال واعتبارها إرهابا مرفوضا ! النظام العربي المتفكك يوما بعد يوم انضم في مجمله لهذا الموقف المنحاز للظالم على حساب المظلوم تحت ذريعة الاعتراف بالأمر الواقع واختلال موازين القوة وعبثية المقاومة في هذا الظرف العالمي القائم على منطق الغلبة والقهر والهيمنة. مفردات الجريمة التي نشاهدها هي هذه المقولات الظالمة التي لا يقبلها عقل ولا يستسيغها منطق:احتلال لا لبس فيه ولا خلاف حوله/فيتو أمريكي يفرض الاحتلال والقبول بالاحتلال/تواطؤ دولي لقبول هذه المعادلة الظالمة/انخراط عربي وإسلامي في منظومة القبول بالاحتلال تحت ذريعة اختلال موازين القوى/رفض لحق المقاومة والتصدي للمظلمة/..... أما المجرمون أي أطراف الجريمة فهم يتزايد عددهم باطراد بتزايد الجريمة وتفاقمها وتكرر مشاهدها ومآسيها. تاريخيا لا جدال في أن الاحتلال ومن سوغ له ذلك هو المجرم الأول الذي يقف وراء هذه الجريمة المتواصلة ! يليه كل المتواطئين معه في الزمان والمكان وتكون درجة جرمهم بحسب انخراطهم في أركان الجريمة! أما اليوم فان ترتيب إطراف الجريمة يختلف بالضرورة تبعا لاختلاف الأوضاع وتغير أطراف المعادلة. لم يعد بالإمكان ولا بالسهولة تسويق الاحتلال إقليميا ودوليا دون انخراط رسمي عربي يتزايد حجما وحضورا وتعبئا وتنكشف خيوطه بتسارع مثير! ولم يكن بالتالي سهلا عل الاحتلال الإقدام على تنفيذ جريمته بهذه السرعة والفجائية والفظاعة دون موافقة إن لم نقل دون تشجيع ودعم مصري أولا وعربي ثانيا ودولي ثالثا! وقد أصبح هذا الانخراط في الجريمة معلنا وعلى المكشوف كما يقال ومن لم يأخذ بالتحذيرات فلا يلومن إلا نفسه! كما صرح بذلك دون مواربة ولا تستر وزير خارجية مصر التي شكلت الغطاء العربي الأول لهذه الجريمة النكراء! أبعد هذا كله لا يزال البعض من العرب يتبجح دون حياء بالعمل العربي المشترك وبقضية فلسطين وبقضايا الأمة عموما ولا تزال الشعوب والقوى الوطنية والنخب الواعية تراهن على هذا النظام العربي الهرم المتذيل لأعداء الأمة والدين؟ لكن ماذا عسى أن يفعل المخلصون والشرفاء من أبناء هذه الأمة المكلومة الذين تتفتت أكبادهم وتتمزق جوارحهم أمام المشاهد المروعة والصور الرهيبة التي تنقلها شاشات العالم دون انقطاع؟ نعم يستطيع هؤلاء الكثير من الأفعال عوضا عن الصراخ والعويل والغضب لو فكرت طلائعهم السياسية والاجتماعية والثقافية قليلا في المسالة: نستطيع أن نفعَل سلاح المقاطعة ولو كانت جزئية أو رمزية لان ذلك هو الطريق الفعال لعزل أعداء الأمة والمعتدين على حرماتها ومقدساتها تدريجيا وبمرور الزمن يتحول هذا السلاح المحدود إلى سيف قاطع سيضرب مصالح الظلمة أينما كانوا ومهما كانوا! نستطيع توجيه ضربة موجعة للدولار الأمريكي الذي يترنح نظامه الرأسمالي المترهل بمجرد قرار جماعي جريء يتخذه مواطنون جريئون ورجال أعمال مخلصون ومستثمرون وطنيون يقررون بسلوك واحد التخلي عن التعامل مستقبلا بالدولار وتعويضه بأي عملة دولية أخرى يختارونها مهما كانت ويكونون بهذا القرار البسيط والجريء سببا في جر قطاعات عديدة أخرى من شرائح الأمة للوقوف صفا واحدا أمام هذا الصلف العربي الصهيوني الأمريكي ضد شعب معزول اعزل لكنه مصر على الصمود إلى النهاية مهما كانت التكاليف!
لقد قالها يوما ما المفكر الفرنسي المسلم غار ودي للشعوب العربية والإسلامية العاجزة عن مقاومة إسرائيل وعنجهيتها المدعومة من أمريكا سابقا والعرب المتخاذلون لاحقا: مجرد تحول أمة من عملة إلى عملة سيركع العالم برمته وتأتي إسرائيل صاغرة للتفاوض المتكافئ الحقيقي ورد الحقوق إلى أصحابها الشرعيين! ستون عاما من الحيرة والاضطراب والتذبذب في مواجهة العدو الغاصب دون الاهتداء إلى سلاح سلمي فعال يقدر على استخدامه كل واحد من أبناء الأمة دون حاجة إلى الآخرين ولا يكلف شيئا! لدينا أسلحة سلمية كثيرة فعالة :سلاح المال،سلاح النفط،سلاح الغاز،سلاح الصناديق السيادية المهدورة في بنوك أمريكا المنهارة!!! وكل ذلك ليس بأيدي الشعوب وطلائعها الوطنية ولكن سلاح مقاطعة الدولار بأيدينا جميعا! لنتصور لو جربنا ذلك منذ ستين عاما بل منذ عشرين عاما فقط بل حتى أدنى من ذلك؟ ماذا كانت النتيجة؟ الخبراء وحدهم يقدرون ذلك؟ المصدر بريد الفجرنيوز