1 ) نعي الإسلام السياسي أراد مهندسو الانقلاب العسكري في مصر أن يكون الانقلاب حدثا تاريخيّا فاصلا يعلن نهاية تيّار الإسلام السياسي ممثّلا في حركة الإخوان لذلك انبرت النّخب الفكريّة السياسيّة و الإعلاميّة التي ناصرت الانقلاب الدّموي في نعي هذا التيّار و إعلان سقوطه المدوّي و سرعان ما تحوّل ذلك الاحتفاء الجنوني بالسّقوط إلى حقيقة إنشائيّة غير استقرائيّة صيغت حولها التّحاليل و المقاربات و القراءات التي انتشرت في ربوع المنطقة العربيّة و العالم تبشّر بتدشين مرحلة حضاريّة جديدة تتخلّص فيها الاوطان من الأشرار المتاجرين بالدّين دعاة الجهل و التخلّف و الظّلاميّة أعداء الحضارة و الأنوار و التقدّم. لكن منذ فضّ اعتصامي رابعة العدويّة و النّهضة و ما صاحبهما من مجازر و جرائم اندلعت حركة احتجاجيّة عارمة لا تزال متواصلة و بنسق ثابت و متّسع يتجاوز الاخوان إلى عموم الشّعب المصري و كذّب هذا الحراك المجتمعي دعوى زوال الاخوان و اجتثاثهم بشكل نهائي لا رجعة بعده و هي دعوى تقوم على أساس غير موضوعيّ في التمثّل و الاستشراف يغفل أنّ الظّواهر السوسيولوجيّة لا تنشأ أو تزول بقرار مهما كانت قوّة الإجراءات المرافقة لذلك القرار و زجريتها و عنفها. هو حراك متنام و متصاعد فشل العسكر و أمن الدّولة و الآلة الإعلاميّة في تحويله عن وجهته السلميّة و استدراجه للعنف و اساسا للسيناريو الجزائري و تحريفه عن مساره المدني و لا أحد يمكن أن يتنبّأ بمآلاته و منتهاه خاصّة في ظلّ ما يروج عن محاولات للبحث عن حلّ تفاوضي في ظلّ عزلة حكومة الظلّ التي يحرّكها العسكر و الانهيار الاقتصادي رغم الأموال التي ضخّتها دول الخليج الدّاعمة بل الشّريكة في الانقلاب . غير أنّ ما يؤكّده هذا الحراك المناهض للانقلاب و حكم العسكر أنّ تيّار الإخوان واقع موضوعيّ له جذور عميقة في وجدان الشّعب المصري و بين فئاته و طبقاته و شرائحه الاجتماعيّة ، ممّا يدفع للتّساؤل : ما هو مستقبل هذا التيّار في علاقة بالشّان العامّ و باعتباره إحدى التعبيرات المتقدّمة لما يسمّى بالإسلام السياسي الذي يواجه إكراهات حداثة عهده بالحكم و إدارة شؤون البلدان المثقلة بتركة الفساد و الاستبداد و الدّولة العميقة ؟... هل مازال لهذا التيّار رصيد و دور في مستقبل المنطقة ؟ موال أأ ما هي التحدّيات المطروحة على هذا التيّار السياسي ذي الطّابع العقائدي الشّمولي ؟ 2 ) الإسلام " واحدا و متعدّدا " عادة ما يُعترض على هذه التّسميات المتداولة بأنّ الإسلام واحد شامل و ليس متعدّدا متجزّئا و ليس هناك إسلام سياسي و إسلام صوفيّ و إسلام فقهي و إسلام إخواني و إسلام سلفي و إلى غير ذلك من تقسيم الإسلام وفق معايير متعدّدة . و الواقع أنّ نسب هذا التقسيم للإسلام اعتباريّ مجازيّ لا غير فالإسلام واحد و لكنّ الفهم و التّأويل و القراءة كلّها تتّسم بالتعدّد و التنوّع و الاختلاف النّظر و مناهج المقاربة فوقع التعبير عن الجزء بالكلّ و عن الفرع بالأصل من باب المجاز المرسل. لكن يجدر السّؤال كيف نميّز بين الإسلام الواحد و المقاربات المتعدّدة و اين ينتهي الإسلام و يبتدئ التّأويل أو بعبارة أخرى كيف نميّز بين رأي الإسلام الثّابت و الرّأي الإسلامي الاجتهادي ؟ يمكن من النّاحية الإجرائيّة أن نعتبر الإسلام الواحد الثّابت هو القرآن و ما صحّ من السنّة و أثبت ما فيهما القطعي ثبوتا " و كلّ القرآن قطعيّ الثبوت في عقيدة المسلمين " امّا السنّة مهما بلغت درجات الصحّة فهي ظنيّة الثبوت أي دون القرآن من حيث قطعيّة الثبوت ثمّ القطعيّ دلالة الذي ينزع إلى الثبوت من حيث دلالته اللغويّة و مآلاته الحكميّة و إن لم يخل من القابليّة للاختلاف في التّأويل و التّنزيل . و من خلال ذلك فالمجال مفتوح للتعدّد و الاجتهاد ممّا يعني أنّ تقسيم الاسلام إلى ما كنّا بصدده من تصنيفات وصلت حدّ التّصنيف الجهوي و العرقي : الإسلام الإفريقي و الإسلام الآسيوي و الإسلام العربي و الإسلام الفارسي و الإسلام الأسود و لم لا الإسلام التّونسي الذي أصبح الحديث عنه دارجا كلّها تقسيمات اعتباريّة لا تعني تعدّدا في الإسلام ذاته بل في الخصوصيات و السّياقات التي رافقت عمليات التقبّل و الفهم و التطبيق. 3 ) الإسلام السّياسي بداية لنحدّد مفهوم الإسلام السياسي على نحو إجرائيّ ... هي تسمية أطلقت على الحركات الإسلاميّة التي تتبنّى الإسلام من حيث هو مرجعيّة نظريّة للسياسة و ترفض اختزال الإسلام في البعد الروحي العقائدي و الطقوسي الشّعائري على تفاوت بينها في تمثّل معنى مرجعيّة الإسلام السياسيّة تأويلا و تنزيلا ... هي تسمية أطلقها الملاحظون من خارج هذا التيّار اقتناعا منهم أنّ الأصل في الإسلام أنّه دين يندرج ضمن المعتقد الشّخصي و اتّخاذه مرجعا للسّياسة يؤدّي الى رهن السّياسي للمقدّس و المتعالي و الإطلاقية و يهدّد مدنيّة السّياسة التي تعني في ما تعنيه النسبيّة و الاجتهاد البشري و تقدير المصلحة و فنّ الممكن ... و اختار الخطاب الايديولوجي إطلاق صفة الإسلامويّة على الحركات التي تندرج ضمن ما سمّي بالإسلام السياسي للتّعبير عن الاستهجان و التّأكيد على زيف هذا الضّرب من الإسلام الإسلاموي و النّزعة التحريفيّة لأتباعه و فكره و برنامجه. و إن كان مصطلح الإسلام السياسي متمحّضا للحركات الإسلاميّة ذات المشروع السياسي فيمكن أن ندرج فيه كلّ من يعتقد في المرجعيّة الإسلاميّة للسياسة في كلّ ابعادها : النشاط السياسي الحزبي / إدارة الشّأن العامّ / سياسة الدّولة و مؤسساتها / التّشريع ... سواء ترجم ذلك الاعتقاد من خلال فعل سياسي عملي أو تأليف نظري ... و تبعا لهذا التّحليل يمكن أن نعتبر المفهوم الإجرائي للإسلام السياسي هو كلّ سلوك نظري أو عملي يدافع عن المرجعيّة الإسلاميّة للسياسة و يريد أن يقيم الدّليل على إمكان ذلك نظريّا وعمليّا في سياق حجاجي حادّ، و لعلّ هذا ما يفسّر سلسلة الكتب و البحوث و النّدوات التي تتواتر عناوينها على نفس الصيغة الثنائيّة : الإسلام و الديمقراطيّة / الاسلام و الدّولة / الاسلام و الاقتصاد / الإسلام و المرأة و إلى غير ذلك من العناوين التي تختبر شرعيّة أن يكون الإسلام مرجعا للشّأن العامّ و جدوى ذلك و نجاعته. و إذا انطلقنا من هذا المفهوم الإجرائي يمكن اعتبار النّشأة الفعليّة لهذا التيّار في بعديه النظري و العملي كانت إثر سقوط الخلافة العثمانيّة و انفصال الدّولة عن مرجعيّة الدّين الرمزيّة و المؤسساتيّة و التشريعيّة حيث يمكن إدراج كلّ المجهود النظري و العملي الذي انخرط في ما يشبه الحركة الاحتجاجيّة على هذا الفصل الدّراماتيكي الحادّ المزلزل للضّمير الإسلامي. و في توصيف هذه الحركة طيلة عقود من الزّمن إلى حدود التحوّل النوعي الذي تشهده المنطقة حاليّا يمكن أن نلاحظ الطّابع التبشيري و الإحيائي و الاحتجاجي و الحجاجي الذي غلب عليها في سياق استراتيجيا الإقناع بأصالة المرجعيّة الدّينيّة للسياسة و مشروعيّة ذلك و جدواه في تحقيق الدّيمقراطيّة و الحريّة و العدالة و التنمية . و اصطبغ سلوك منظوري هذه الحركة الواسعة بسمات الاهداف و المقاصد و السياقات و الملابسات التي حفّت بنشأتها و تطورها على اختلاف مكوناتها و تلويناتها... كما أنّ المحن و الاضطهاد و الصعوبات التي مرّ بها مناضلو هذه الحركة إبّان فترة الاستبداد قد أضافت لها ذلك الزخم العاطفي الانفعالي الذي رسّخ شعور الغربة حيث يعود مجد الإسلام كما بدأ مع الغرباء . و السّؤال الذي يجب أن يطرح اليوم هل مازال الاسلام السياسي بمواصفاته تلك و هويّته التي تشكّلت في خضمّ التجاذب و التّدافع يستجيب للتّحديّات التي يقتضيها مسار الربيع العربي من خبرة و كفاءة نظريّة و عمليّة في إدارة الشّان العامّ ؟ 4 ) الإسلام الحضاري و المقصود به تجاوز إسلام الشّعار و التحدّي و الاغتراب و الإثبات الهووي " نسبة إلى الهويّة " إلى إسلام تجديديّ يؤسّس لمقومات نهوض جديد و استئناف حضاري يؤسّس على كلّ منجز بشريّ أصيل و ذو جدوى بكلّ ما يعنيه ذلك من مدنيّة و رقيّ قيمي و رفاه اجتماعي و تقدّم في مجال العلوم و المعارف و الثّقافة و الإبداع و الفنون و الصّناعات و المحافظة على البيئة ... هي ليست مهمّة حزب أو فئة أو فصيل أو مذهب بل مهمّة كلّ من يؤمن بالمرجعيّة الحضاريّة للإسلام نقلا و عقلا و تجربة تاريخية و مقاصد و من يمتلك الطّاقة المعرفيّة و المنهجيّة و الاجتهاديّة النّوعيّة ليبدع قراءة للإسلام تترجم قيمه و تعاليمه بالشكل الذي يبني مجتمع الحريّة و الكرامة و العدالة الاجتماعيّة و المساواة و يؤسّس لإسلام المواطنة و الحقوق و العقلانيّة و التنوير و الأخلاق باعتبار كلّ هذه المضامين روح الشّريعة و حكمتها و عللها و فلسفتها و مراميها و مقاصدها العليا التي تحقّق أهمّ مقاصد الخلق و هي التعارف الذي من أجله خلق النّاس شعوبا و قبائل على هيئة الاختلاف و التنوع لا التّماثل . و دعاة هذا التوجّه الحضاري للإسلام إذا انتظموا في أحزاب أو جمعيّات أو مراكز بحث فيجب أن تكون مدنيّة عصريّة تحتضن أفضل النّخب و العاملين الذين حصّلوا أفضل تكوين و تأطير و تدريب يواكب التطورات المعرفيّة و لا سيما في مجال التصرّف و الموارد البشريّة . الإسلام الحضاريّ كونيّ إنسانيّ مُحاور لكلّ ثقافات العالم منفتح على كلّ جهد بشري يتّسم بالحكمة و يؤسّس للحقوق و الكرامة الآدميّة . هذا الإسلام يتجاوز ثقافة الشّعار و الاشهار و الانفعال و الاحتجاج و المناكفة و المماحكة و الادبيّات التقويّة و الوعظيّة و الفقهيّة و الكلاميّة و التفسيريّة التي تعيد إنتاج المعارف الوسيطة دون مراجعة أو نقد أو تجديد. هو إسلام يبدع الشروط المعرفيّة و المنهجيّة لحداثة تنبع أسسها من داخل منظومته القيميّة و معقوليّته و روحانيّته و مرجعيّته النصيّة المُتَعَقَّلَة المُتَدَبَّرَة . إسلام يتجاوز حدود ثقافة الملّة و ترتيبات دار الإسلام و دار الكفر أو دار الدّعوة و دار الإجابة إلى سعة دار التّعارف الآدميّ التي يجمعها بين سكان معمورتها أب واحد و أمّ واحدة و تشترك في الآدميّة المكرّمة تكريما متأصّلا مركوزا في أصل الخلق و النّشأة بإرادة الخالق و مشيئته ، إسلام برنامجه إتمام مكارم الأخلاق باعتبارها جوهر الرّسالة المحمّديّة و مبتدأها و منتهاها و أفقها الخلاصي الدّنيوي و الأخروي. هذا الإسلام لا يمكن أن تجسّده حركات و احزاب و تيارات سياسيّة تقليديّة ذات توجه مذهبي طائفيّ يقوم ترتيب الشأن الدّاخلي فيها وفق نفس قواعد الملل و النّحل الدّينيّة و أدبيّات السياسة الشرعيّة السلطانيّة الوسيطة من سريّة و بيعة و طاعة في المنشط و المكره و مشيخيّة و شورى معلمة غير ملزمة و نزعة طوباويّة عاطفيّة دون استيعاب لآليّات الدّيمقراطيّة العصريّة و السياسة المدنيّة القائمة على المؤسسات و التعاقد المدني و استيعاب لمقتضيات الواقع . لا يمكن لهذا الإسلام الحضاري أن ينطلق ابتداء من توجه شمولي محمول بخلفيات عقائديّة دغمائيّة تبشّر بحكم العالم تحت لواء الإسلام بل يكتسب الإسلام بعده العالمي من خلال الاشتغال على الوطني و حسن استثمار المرجعيّة الإسلاميّة في محاورة الواقع المحلّي بكلّ تعقيداته و تفاصيله و تحدّياته و رهاناته و مطالبه منفتحة في ذلك على كلّ الزّخم المعرفي و القيمي و الحقوقي و المنهجي العالمي ممّا يسهم في المثاقفة و تطوير ثقافة الذّات عن الذّات و عن الآخر. لطالما اعتبرت تركيا في ظلّ حزب العدالة و التنمية نموذجا لنهضة الإسلام الحداثيّ الدّيمقراطي مع إغفال تجارب أخرى أكثر تجذّرا و توازنا و انسجاما مع مخزونها الثقافي و تاريخها الحضاري رغم الإكراهات و المحاذير التي تحيط بها و نقصد بذلك مثلا التّجربة الماليزيّة التي ظهر فيها مصطلح الإسلام الحضاري في مقابل الإسلام السياسي و الصّوفي و الدّعوي و الجهادي الذي يجزّئ الإسلام و يجرّده من بعده الحضاري الإنساني القيمي و المعرفي و العملي . و قد طرح هذا التصوّر لأوّل مرّة رئيس وزراء ماليزيا داتو سري عبد الله أحمد بدوي باعتباره رؤية الإستراتيجية لماليزيا في أفق سنة 2020 تحقّق التنمية بكل ابعادها الروحيّة و الجسديّة و القيميّة و التربويّة و الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و الثقافيّة و السياسيّة ... و يقوم تصوّر هذا المشروع الحضاري الشامل على عشر نقاط وردت في مقال د. محمد شريف بشير أستاذ جامعة العلوم الإسلامية بكولالمبور بعنوان الإسلام الحضاري، مشروع النهضة الماليزي نشر في موقع اسلام أون لاين 1- الإيمان و التقوى: باعتبار أنّ الترقّي الرّوحي يتوقّف على البعد الأفقي في تزكية السّلوك ممّا يعدّ دافعا للعدل و العمل الصّالح و العلاقات السويّة في المجتمع 2- الحكومة العادلة والأمينة 3- الحرية والاستقلال 4- التمكن من العلوم والمعارف 5- التنمية الاقتصادية الشاملة والمتوازنة 6- تحسين نوعية الحياة 7- حفظ حقوق الأقليات والنّساء 8- رعاية القيم الثقافية الفاضلة 9- حفظ البيئة وحمايتها 10- تقوية القدرات الدفاعية للأمة و تعتبر هذه النقاط تأطيرا لتصوّر يقوم على محاور و تفاصيل و شروط وردت مفصّلة في المقال المذكور آنفا و تتعلّق بمشروع استراتيجي يؤهّل المجتمع للقيام بأدوار متقدّمة و يمهّد لتجربة صناعيّة وطنيّة متطوّرة تزمع ماليزيا أن تخوضها للانخراط في الاقتصاديات الحديثة دون أن تكون مرتهنة للمنظومة الاقتصاديّة و الماليّة العالميّة و تقلّباتها و اشتراطاتها المجحفة على حساب الاستقلال و السيادة و المقدّرات الحيويّة للبلد. و يعتبر البروفيسور داتو عبد الله محمد زين، وزير الشئون الإسلامية والأوقاف بماليزيا أحد أبرز المفكرين الماليزيين الذين ساهموا في بلورة هذا المشروع و صياغته النّظريّة و يقول في تعريفه للإسلام الحضاري : "الإسلام الحضاري ليس دينا جديدا ولا مذهبا فقهيا مبتدعا، وإنما هو طريقة تقوم على مثل وقيم الإسلام الخالدة لتعزيز تقدم الحضارة ألإسلامية وهي طريقة لعرض الإسلام بواقعية وعودة الأمة إلى مصادر الإسلام الأصيلة ومبادئه القويمة. ويعطي مشروع الإسلام الحضاري مزيدًا من الاهتمام لزيادة جودة الحياة الإنسانية لكل الناس بغض النظر عن أعراقهم وثقافاتهم ومعتقداتهم" و يضيف الإسلام الحضاري "هو اجتهاد بشري وليس وحيًا معصومًا؛ ولذلك هناك احتمال الاختلاف معه" و في تحديده لخطّة هذا الإسلام ليصبح مشروعا قائما في الواقع يقول : "الإسلام الحضاري يبدأ من أسفل إلى أعلى، ومن القاعدة إلى القمة، ومن الجمهور والقرى إلى القادة بطريقة منظمة ومتدرجة ورفيقة، وبالتركيز على الأولويات حيث العبرة بالمعاني والمقاصد لا الألفاظ والعبارات". نحن إذا أمام محاولة للاستئناف الحضاري الشّامل يطرحها عدد من رجال الدّولة في ماليزيا لا باعتبارها أيديولوجيا للتعبئة و الحشد الشعبي الانتخابوي أو نموذجا للتّصدير و لا باعتبارها عنوانا لانتماء الهووي أي التمايز قائم على الهويّة في بلد متعدد الثقافات و الأديان و الأعراق و لا باعتباره برنامجا تفرضه الدّولة بقوّة الشرعيّة القانونيّة و الرّصيد الانتخابي بل كمشروع وطني عملي ينطلق من المجتمع لتحقيق المدنيّة و الرقيّ الحضاريّ في إطار وطني ماليزي، لذلك لم يتهافت الماليزيون للتبشير بهذا التصوّر و تصديره للعالم الاسلامي باعتباره النموذج المثالي الخلاصي الجدير بالاحتذاء و الاتّباع خاصّة و أنّه لا يزال قيد الاختبار و التّفعيل في الواقع وسط كلّ الإكراهات الدّوليّة و الإقليميّة و المحليّة. إنّ كلّ ما أوردناه من تحليل يؤكّد أنّ عصر الإسلام السياسي بالمعنى الذي أسلفنا قد ولّى و لم يعد له من موجب و التّفكير في اللحظة الحضاريّة الرّاهنة و تحدّياتها الحضاريّة بوعي الإسلام السياسي سيكون ضربا جديدا من الاغتراب المركّب حيث سينضاف لاغتراب الإسلام السياسي المتأصّل منهجا و فكرا و ممارسة اغترابات راهن ما بعد الثّورة هذه الاغترابات الجديدة التي يشترك في بعضها مع كلّ مكوّنات الساحة السياسيّة التي لم يستوعب عقلها السياسي التقليدي و ايديولوجياتها التّماميّة المغلقة و مسلكيتها الاحتجاجية و الميكيافليّة القديمة المتبعة زمن الاستبداد متطلبات لحظة الانعتاق السياسي و النّهوض الحضاري التي انفتحت مثل طاقة القدر لتدقّ أبواب الشّرق و تستنهضه من جديد للقياد بأدوار حضاريّة إنسانيّة متقدّمة ...